سوف يبقى المنهج الحسيني التحرري حاجة ملحّة لأمة الإسلام، وما على الطبقات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، إلا العمل الجاد في استلهام هذا المنهج، وتطبيق أفكاره وقيمه ومبادئه في واقعنا الإسلامي، فهذا هو السبيل إلى اعتلاء منصة المجد مرة أخرى بين الأمم المتقدمة...
تتيح الوثائق التاريخية فرصة دقيقة للباحثين، لمعرفة الأسباب الموجبة لإعلان الإمام الحسين عليه السلام موقفه الرافض للسلطة الأموية آنذاك، بعد أن سلبت الحقوق والحريات من الأمة الإسلامية، وانحرفت بالإسلام نحو طريق مناقض لما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وآله في رسالته التي تكلّلت برفع الأغلال عن المجتمع، فكانت الحرية هي الهدف الأساس للرسالة النبوية.
تعرَّف الحرية على أنها إمكانية الفرد دون أيّ جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة. ويعيّن مفهوم الحرية بشكل عام شرط الحكم الذاتي في معالجة موضوع ما. والحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية.
فالحرية تشمل التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو للذات، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، والتخلص من الإجبار والفرض.
أما في اللغة، فالحريّة هي مصدر صناعي، مركّب من الصفة المشبّهة "حُرّ"، وحريّة الشعب هي سيادته على نفسه، وحرية التجوّل والتعبير والاعتقاد هي حق الإنسان في اختيار ما يريد وفقاً لاقتناعه واعتقاده.
ويعود أصل المفهوم الحديث للحرية السياسة للأفكار الإغريقية عن الحرية والعبودية، فحتى يكون المرء حراً، حسب الإغريق، كان يجب ألا يحكمه سيّد، وأن يعيش كما يريد، ويرتبط هذا المفهوم بشكل وثيق مع مفهوم الديمقراطية عند أرسطو: حيث يُعدّ ذلك أحد سمات الحرية التي يؤكد جميع الديمقراطيين على كونها من مبادئ دولتهم، بالإضافة إلى أن المرء ينبغي له أن يعيش كما يشاء، أما العكس فيكون علامة على العبودية.
للحرية منحيان، فهنالك الحرية السالبة، والحرية الموجبة، ويعود مفهوم هذين النوعين من الحرية إلى الفيلسوف إيمانويل كانت. فالحرية السالبة أو الشخصية هي إمكانية اتخاذ القرار دون قيود وهي حق طبيعي.
والحرية الموجبة حرية مُعطاة، أو إمكانية مُعطاة ليستطيع الإنسان ممارسة الحرية السالبة (الشخصية) وهي حق إنساني أساسي. مثال: إذا كانت الحرية السالبة هي حرية إبداء الرأي مثلا، تكون الحرية الموجبة في هذا المثال: إمكانية استخدام الإعلام مثلا لممارسة هذه الحرية.
ما ورد في أعلاه سعت الرسالة المحمدية إلى تكريسه في المجتمع الإسلامي، وقد الأئمة الأطهار قصارى جهودهم العلمية والمبدئية لكي يشيعوا بين الجميع المنهج الفكري التحرري، فكانت الأمة آنذاك تتمتع بحريات وأفكار نمت على أيدي الرسول الأكرم ومن بعده الأئمة الأطهار.
رفض الفكر الحسيني للدكتاتورية والفساد
وحين حاول يزيد أن ينحرف عن هذا الطريق التحرري، وسعى لتشويه الرسالة الإسلامية وطمر مبادئها، وقف الإمام الحسين عليه السلام ليعلن رفضه لسياسة يزيد الدكتاتورية الفاسدة، وقمع الحريات، ومحاولة تحويل الناس إلى عبيد من خلال فرض العبودية التي تسلب الإنسان قدراته كلّها فضلا عن تدمير شخصيته ومسخها وتحويله إلى عبد يأتمر بأوامر الطاغية.
لقد كان المسلمون إبان الرسالة النبوية يتمتعون بحريات واسعة، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والدينية وسواها، على خلاف ما جرى في عهد يزيد، أما واقع المسلمين اليوم فإنه ينبئ بتردٍ هائل في مستوى الحريات والحقوق، وهنالك صعود مخيف في ارتفاع الخط البياني لسلب الحريات.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم (كتاب من حياة الإمام الحسين ع):
(كانت الأمة الإسلامية ـ وببركات القرآن والعترة ـ تتمتع بالحريات، واليوم كبت وخنق عام، فلا حرية للتجارة، ولا حرية للزراعة، ولا حرية للصناعة، ولا حرية للسفر، ولا حرية للإقامة، ولا حرية للعمران، ولا حرية .. ولا حرية ...)
في إطلالة ميدانية على واقع المسلمين اليوم، سوف يكتشف الباحث أننا نعاني من إدارة سياسية يشوبها التشوّه في نواحٍ عديدة، فالممنوعات في ظل بعض الحكومات الإسلامية تكاد تكمم كل شيء، وتسمم حياة الناس، وتسلبهم حقوقهم وحرياتهم، وهو ما قاومته الرسالة المحمدية وغرست في عقول الناس وقلوبهم الفكر الحر، وعلمتهم على حق الرأي والاعتراض والتمتع بالحرية.
وحين غابت أجواء الحرية في عهد يزيد انطلقت الثورة الحسينية لتعيد القيم إلى نصابها، وظلّ شعاع الفكر الحسيني ساطعا إلى يومنا هذا، ومتاحا لكل ذي بصيرة من الحكام والحكومات ولكل ذي عقل حر من المسلمين، ولكن ما يؤسف له حقا، أنّ المسلمين لا زالوا يفتقدون للتمسّك الفعلي بالمنهج الحسيني التحرري.
لذا يتساءل الإمام الشيرازي عمّا ينقص الأمة الإسلامية اليوم فيقول:
(هل اليوم هناك حركات إسلامية تمضي في خط الإمام الحسين عليه السلام، للنهوض بواقع الأمة، وإنقاذ المسلمين من الفقر والفسق والاستعباد؟).
خطوات ومقترحات لتقدم المسلمين
الواقع هو خير من يجيب عن هذه التساؤلات، فما يعيشه المسلمون اليوم يؤكد حاجتهم إلى الالتزام بالمنهج الحسيني التحرري، ولا خلاص من هذا الواقع المزري ما لم يتمسك المسلمون (قادة سياسيون، واقتصاديون، وعلماء، ومثقفون، وعامة الناس)، بمضامين الفكر الحسيني الرافض للقمع والظلم والفساد.
ويقدّم الإمام الشيرازي سلسلة من المقترحات والخطوات والنصائح لمن يعنيه الأمر في أمة المسلمين، من قادة النخب المختلفة، وأفراد الأمة جميعا، زهي خطوات واضحة للعيان، إذا التزموا بها نهضوا وتقدموا وسوف يستعيدون مكانتهم في صدارة قيادة الأمم كما كان عهدهم إبان الرسالة المحمدية.
(إذا أردنا أن نسير في خط الإمام الحسين عليه السلام، فالواجب علينا بادئ ذي بدء الشروع بعدة أمور منها: أن يكون الحكم بالاستشارة والانتخابات الحرة، لا بالوراثة ولا الانقلابات العسكرية وما أشبه). هذه أولى الخطوات التي على المسلمين الالتزام بها وتطبيقها على واقعهم فيما لو أرادوا العودة إلى حلبة التنافس التقدمي في العالم.
فالحكومات الإسلامية لا يمكن أن تستمد شرعيتها من الحكم المتوارَث، ولا يمكن أن تصل إلى سدة الحكم عبر الانقلابات العسكرية، ولا عبر الانتخاب الشكلي المرسوم مسبقاً، هذا يعني أنها فاقدة للشرعية بشكل قطعي، ولا يمنحها الشرعية إلا الانتخابات الرصينة المصونة عن التلاعب والتزوير.
هذا السلوك السياسي والثقافة الاجتماعية يستطيع المسلمون الحصول عليه فيما لو التزموا بالمنهج الحسيني التحرري، فهو كفيل بإعادة المسلمين إلى حاضنة الحرية التي تكفل لهم تقدما هائلا في عالم اليوم، وعودة مضمونة إلى مضمار التنافس العالمي، وهذا لا يمكن أن يحدث أو يتم ما لم يعمل المعنيون في أمة الإسلام على: (إعادة الحريات إلى كل المسلمين، بل وغير المسلمين القاطنين في بلاد الإسلام). وهذه إحدى الخطوات المهمة التي يلزم بها الإمام الشيرازي المسلمين كي يعودوا إلى الصدارة.
وفق هذه الخطوات المستمدة من المنهج الحسيني التحرري، يستطيع المسلمون من توحيد صفوفهم، وتكثيف طاقاتهم، وإعلاء كلمتهم، وتنشيط دورهم التنويري لصنع عالم بلا ضغائن ولا ظلم ولا احتكار واحتقان.
وهناك علّة موجودة في المسلمين ثبّتها الإمام الشيرازي، ونبّه عليها، ولا بد من الوقوف عندها طويلا، والتخطيط السليم والحثيث لمعالجتها، كونها تسهم في بقاء المسلمين في حالة ديمومة من التأخر، هذا الخطأ أو العلة تتمثل في أهمية أن نؤمن بالمنهج الحسيني نظريا، ونسعى بصدق وإيمان إلى تطبيقه واقعيا.
من الجيد أن يؤمن المسلمون بالنهضة الحسينية ومضامينها ومبادئها، وهو أمر مطلوب، لكن الإيمان يبقى في حالة منقوصة ما لم يتم تطبيق هذا الإيمان النظري إلى محتوى مادي عملي ملموس، حتى يكون المسلمون مؤمنين وعاملين بقوة نحو تحقيق أهداف الحسين عليه السلام.
كما نقرأ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (وبذلك نكون قد سرنا في طريق الإمام الحسين عليه السلام.. أما الاقتناع بمراسيم العزاء فقط، فإنه مع غاية حسنها وضرورتها، لا يغني عن العمل بأهداف الإمام الحسين عليه السلام).
سوف يبقى المنهج الحسيني التحرري حاجة ملحّة لأمة الإسلام، وما على الطبقات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، إلا العمل الجاد في استلهام هذا المنهج، وتطبيق أفكاره وقيمه ومبادئه في واقعنا الإسلامي، فهذا هو السبيل إلى اعتلاء منصة المجد مرة أخرى بين الأمم المتقدمة.
اضف تعليق