الاهتمام بشأن العلماء ومجالستهم وتوقيرهم، والعمل بإرشاداتهم، هو أساس مكين لارتقاء الإنسان، ورفعة المجتمع، وازدهار البلاد، وعز الأمة، ونصرة الدين. وجدير بالمؤمنين والمؤمنات الاقتداء بالعلماء الأعلام، والاطلاع على علومهم، والتعرف الى سر نجاحهم وتوفيقهم في الوصول الى ما وصلوا إليه، من المراتب السامية وخلود ذكرهم...
التراث الفكري العظيم لأهل البيت (عليهم السلام) يضم الكثير من الروايات التي تتحدث عن فضل العلماء، ودورهم الاستثنائي في بناء الإنسان المؤمن والمجتمع الصالح والأمة الحية، فكان الحث - مؤكَداً ومكرراً – على مجالسة العلماء والانتفاع من علومهم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مجالسة العلماء عبادة».(البحار، م/1، ص/64، عن كشف الغمة). وقال لقمان لابنه: «يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء»(البحار: م/1، ص/64، عن روضة الواعظين).
وعن أهمية العلم وفضل طلبه والبحث فيه وعنه، ومنزلة العلماء الذين يحملونه إلى الناس، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «العلم خزائن، ومفتاحه السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحب لهم»(المجازات النبوية للشريف الرضي ص 209). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون». (البحار، م/1، ص/62، عن صحيفة الرضا، وعيون أخبار الرضا).
كما أن الاهتمام بشأن العلماء ومجالستهم وتوقيرهم، والعمل بإرشاداتهم، هو أساس مكين لارتقاء الإنسان، ورفعة المجتمع، وازدهار البلاد، وعز الأمة، ونصرة الدين. وجدير بالمؤمنين والمؤمنات الاقتداء بالعلماء الأعلام، والاطلاع على علومهم، والتعرف الى سر نجاحهم وتوفيقهم في الوصول الى ما وصلوا إليه، من المراتب السامية وخلود ذكرهم.
ومن الوفاء تأمل سيرة العلماء العاملين المخلصين، بحسب التعبير النبوي الشريف، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «العلماء كلّهم هلكى إلاّ العاملون، والعاملون كلّهم هلكى إلاّ المخلصون، والمخلصون في خطر عظيم».
ولقد أشرقت أسفار أعلام الشيعة بالعبر البالغة والدروس النافعة، فقد دأبوا على أن يعيشوا أحراراً، فكانوا – والى اليوم - للناس مُلهمين، وكرّسوا علمهم وحياتهم في خدمة الدين ونشر الفضيلة، فأصبحوا للمجتمعات آباء وهداة، وثبتوا في الدفاع عن حقوق الشعوب المظلومة، فاختارتهم الشعوب لها قادة، ولم يتخلوا عن هداية البشرية إلى مبادئ العدل والخير والسلام والى الحياة الفاضلة، فأضحى لهم في وجدان الصالحين والمصلحين مستقراً ومقاماً.
لذا فإن التزود من دروس العلماء الأعلام، لهو سبيل إلى الغنى العلمي والنفسي والأخلاقي، يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي الراحل (قده): (إنما الحياة تجارب، وكلما كان الإنسان أعرف بتجارب الحياة، كان باستطاعته أن يبني لنفسه حياة أفضل، ولذلك يصرّ الكُتاب والمؤرخون على تسجيل التجارب حتى يستفيد منها الآخرون في حياتهم وخاصة إذا كان صاحب التجربة عالماً من العلماء، أو عبقرياً من العباقرة).
إن أهمية دور العلماء تكمن في العلم الذي يحملونه، ويقضون حياتهم في طلبه ونشره، فالعلم بوصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (مصباح العقل وينبوع الفضل). والوقائع تؤكد أن اجتماع العلم مع المجتمع المطيع للعلماء، أساس النجاح في بناء الإنسان الصالح، والمنطلق الصحيح لتشييد دولة يعيش أفرادها بسلام ورفاه، والتاريخ البعيد والقريب يتحدث بفخر عن الدور المبدئي والأخلاقي والإنساني لأعلام الشيعة، خاصة في خضم الأحداث الجسيمة والنكبات الموجعة، وما العراق ببعيد، فقد وصل إرهابيو تنظيم داعش إلى مشارف بغداد، بعد أن احتلوا ثلث مساحة العراق، وبعد أن اقتربوا من مدينتي النجف وكربلاء، أعلنوا عن مشروعهم الأكبر، ألا وهو إبادة الشيعة ومحوهم بلا رحمة، وصرح بيانهم بأن التنظيم "سيقتل حتى الجنين الشيعي المختبئ في بطن أمه، وأنه لن يبقي أي أثر للعتبات المقدسة في بلاد الرافدين، بدء بالنجف وكربلاء".
حينها تيقن شيعة العراق أنهم في حرب وجود، خاصة بعد أن وقف العالم (ومعهم دول الجوار العراقي) متفرجاً دون مبالاة، كان موقف المرجعيات الدينية، ونداء الحوزات العلمية، بحمل السلاح دفاعاً عن بلاد الرافدين المبارك بالأنبياء والأئمة والعلماء، وهبت مئات الألوف من الشيوخ والشباب والفتيان، ويتقدم الحشود علماء دين ومبلغين، تحت راية (لبيك يا أبا عبد الله).
وقد وصف قادة عسكريون في مؤتمرات علمية عُقدت في عدة دول أوربية وأمريكية بأن ما حققه العراقيون هو "إعجاز، وإن شجاعة مقاتليه ومعنوياتهم الهائلة مثيرة للإعجاب والدهشة"، وقد حقق العراقيون ما عجزت عنه جيوش كبرى، وقد تحقق هذا الإنجاز الحسيني العراقي بتعاون العراقيين، وبرعاية المرجعيات الدينية ومباركتها، وهذه الوحدة (المجتمعية – العلمائية) بحد ذاتها كانت إعجازاً آخر أذهل الصديق قبل العدو، وهذه الوحدة سر الانتصار الكبير الذي جرى في العراق.
وهذا الانتصار امتداد لانتصار ثورة العشرين في العراق أيضاً الذي تحقق ببركة فتوى وقيادة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي(قده). وثورة التبغ التي أفتى بها وقادها المجدد السيد محمد حسن الشيرازي. يقول الإمام الشيرازي (قده): (متى ما تواجد العلماء في مجتمع، والتف ذلك المجتمع حول علمائه، واحتفوا بهم، إلاّ وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً).
ويقول (قده): (إن العلماء عبر العصور المتمادية والقرون المتتابعة سائرون على منهجهم الذي رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرون عليهم السلام من إصلاح أمور الأمة الإسلامية وتقويمها، فلم يتركوا الحكام وما يفعلون، ويدعوهم وما يريدون، بل تدخلوا في السياسة. وقد كان من واجب العلماء أن يردوا الأمراء والحكام عن الغي والفساد، إذا انزلقوا، وكان عليهم أن يقابلوهم ويرشدوهم باللسان والنصح، فإن لم ينفع ذلك فبالوقوف دونهم وما يريدون، مهما كلفهم الأمر، وكانوا يقومون بذلك ويرشدون وينصحون، ويهددون ويكفرون، ويعارضون ويقاطعون كل من كان ينحرف عن الإسلام من الحكام).
وقد امتلأت صفحات التاريخ بالمواقف الحكيمة والمواجهات البطولية لأعلام الشيعة مع الدول المستعمرة والمحتلة من جهة، ومع أنظمة الجور والاستبداد، من جهة أخرى، وعلى هذا الطريق قدموا تضحيات كبيرة، خلدتها الأيام وتحتفي بها الأزمان، فكم من عالم حُبس في بيته، وكم من عالم أقصي عن مجتمعه، وكم من عالم أبعد عن وطنه؟ وكم من مجتهد أوذي وسُجن؟ وكم من فقيه أحرق داره وطُرد؟ وكم منهم قُتل وصُلب وأعدم؟ وكل ذلك كان على طريق نصرة العدل والحرية ومحاربة الجور والقهر، ونشر الخير والفضيلة وصد الشر والرذيلة، وإرشاد الحكام وتقويمهم، ونصرة المظلومين والمشردين، وإعلاء شأن الشعوب لتوفير الحياة الكريمة لها.
يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): (لا يولد العظماء وهم عظماء، بل يولدون كسائر الناس، رجالاً ونساء، ولكن هم الذين يصنعون العظمة لأنفسهم، وصنع العظمة بحاجة إلى كلمة، سواء للرجل أو المرأة، وعالم الدين ورجل الأعمال، وصاحب مؤسسة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية، أو اقتصادية وغيرها، وهذه الكلمة هي: لا للبحث عن الراحة، فمن يلتزم بهذه الكلمة سيكون نصيبه التوفيق). وهذا هو أهم ما ينبغي معرفته، لكل من يقرأ حياة عَلَمٍ من أعلام الشيعة.
كما سجّل علماء المسلمين مواقف مضيئة وإبداعات جليلة في مجالات العلم والفكر والمعرفة من جهة، ومن جهة أخرى، في سوح الجهاد والإعمار والإصلاح، ومن أعلام الشيعة، والفقهاء المجددين، المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1928م – 2001م)، الذي ترك إرثاً علمياً كبيراً وفريداً، وأبرز ما يميز هذا التراث الضخم، أنه في معظمه جديد على المكتبة الإسلامية وتجديدي، فقد ألف أكبر موسوعة من نوعها في الفقه الإسلامي الاستدلالي، وتقع في مائة وخمسين مجلداً (سبعين ألف صفحة من القطع الكبير)، وتتميز بكثرة التفريعات والمسائل المستحدثة، واستنباطات مبتكرة عبر استيعاب دقيق للأدلة الشرعية، والأعرفية بالمدارك والقواعد، والذوق العرفي الرفيع، ومقرونة باطلاع واسع على الأشباه والنظائر، وعمق التحقيق ودقته.
ويُعد الإمام الشيرازي الراحل (قده) أبرز المجددين والتحديثيين، حيث استوعبت أفكاره وإنجازاته جل مفردات الدين والحياة، من خلال موسوعيته الثقافية، وإحاطته الفقهية الممتزجة بقدرة الانفتاح، وشجاعة الطرح، وتحمّله نتائج المواقف التي تحفظ المبدأ وتصون الحقيقة، وإنْ أغضبت سلطة وأزعجت أدعياء وأنعقت رعاعاً. فقد امتلك عقلية مبدعة ومبتكرة، مكنته في التجديد والتطوير في حقول المعرفة الدينية، وبالخصوص في علم الفقه وأصوله، ففي المجال الفقهي لم يتوقف (قده) عند الأبواب المعتادة التي تبدأ بالاجتهاد وتنتهي بالديات فحسب، بل استحدث أبواباً وتفريعات جديدة، فيوم كان الفقه يدور حول أبواب محدودة، حيث قسمه الفقهاء العظام إلى العبادات والمعاملات، وقسمت العبادات إلى الطهارة ثم الصلاة والصوم...الخ، وقسمت المعاملات إلى العقود والإيقاعات، استحدث الإمام الشيرازي (قده) أبواباً جديدة، فقد استحدث في موسوعته الفقهية (25) باباً جديداً، لم تكن معهودة في الفقه، منها السياسة، الاقتصاد، الإدارة، العولمة، الحقوق، فلسفة التاريخ، الإعلام والرأي العام، الدولة الإسلامية، السلم والسلام، الاجتماع، البيئة، القانون، المستقبل وغيرها.
اضف تعليق