أن التهذيب الذي مارسته الحضارات المختلفة منقوص على نحو (المقتضي لا العلة التامة) كونها حضارات مادية تحفز على الازدياد والكشف فلن تستطيع اقناع النفس بالاكتفاء ما يؤدي لوصوله لمرحلة الفساد والطغيان، وإن جوهر العلاقة بين الذات والمحيط، يقود بسهولة ويسر إلى مفاهيم الحرية والعدالة، وغيرها من مكونات الحياة الحضارية...
كل إنسان ينشد الحياة الطبيعية؛ عليه أن يكون متصالحاً مع نفسه، وفاعلاً في مجتمعه، وبذلك تتحقق له علاقة ممتازة بين ذاته والمحيط الذي يعيش فيه، تمكنه من أن يكون متوازناً ومعتدلاً فليس هناك أفضل من قيمة الاعتدال في الحياة.
إن غياب العلاقة بين الإنسان ومجتمعه جعلت قضية الانسجام مع مستجدات الزمن أمراً بالغ الصعوبة، فتكون المستحدثات عبارة عن آليات لتعزيز الفردانية الانعزالية.
وقد انتبه المفكر الإسلامي السيد محمد الحسيني الشيرازي لخطورة غياب العلاقة بين الإنسان ومحيطه المجتمعي، مؤكداً على ضرورة التلازم من أجل أن يتشكل وعي حضاري قائم على استيعاب الجديد الذي يحصل، من دون التنازل عن قضية التصدي للمنحرف من الأفكار والتوجهات. هذا التصدي لن يُكتب له النجاح من دون انسجام الفرد مع القضايا التي تخص مجتمعه وبيئته الأخلاقية والمعرفية التي أنتجته.
والانسجام الذي يركز عليه السيد الشيرازي هو انسجام الفطرة مع السلوك، وعدم السماح للظواهر الطارئة، والعبارات الشائعة الخطأ، أن تعبث بمصير الإنسان أو تحدد مستقبله، فيقول: "وقد اشتهر عند جماعة من الناس قديماً وحديثاً القول: (حشر مع الناس عيد)، بينما الحشر مع الناس المستقيمين عيد، أما الحشر مع المنحرفين فهو عزاء وضلال، أترى أن الإنسان إذا ذهب إلى أهل الشرق وحُشِرَ معهم، هل يمكنه أن يحشر نفسه مع أهل الغرب ... ؟! وهل يمكن أن يكون للإنسان عيدان: عيد إلى أقصى اليمين وعيد إلى أقصى اليسار؟ إن هذا هو مصداق أن ينفصم الإنسان عن نفسه بنفسه"1
إن هذا التفاوت بين داخل الإنسان وخارجه هو الذي يغذي السلوكيات المتناقضة التي تنتج بدورها أفكاراً متناقضة، والسبيل لقطع الطريق أمام هذا التفاوت وامتداده في جسد الأفكار والسلوكيات؛ هو الحرص على إبقاء العلاقة بين الفطرة الإنسانية والسلوك الإنساني، والتي تقدم الذهنية المتوقدة والمستعدة للإبداع.
ومخطىء من يعتقد أن الحفاظ على ثنائية الفطرة والسلوك يعطل التعاطي مع المسارات التحديثية التي تجتاح عالمنا اليوم. كل ما في الموضوع أن هذه الثنائية تعمل على تقنين متوازن لهذا التعاطي مع المستجدات، وهذا التقنين المتوازن يتحقق من خلال الاعتدال الذي ينبغي أن تُستنفر من أجله الجهود لطرحه مشروعاً تنويرياً يتحقق عبر عمل جماعي ومؤسسي.
ويشدد السيد الشيرازي على ضرورة أن تتبنى المؤسسات التي تنشد الاعتدال عملية إيقاف المبادىء والسلوكيات التي تعمل بأجندات لنخر الجسد الانساني عبر ترويج أفكار الالحاد والحريات الفوضوية، وعدم الاكتفاء ببعض الأدوار الفردية كخطبة وعظية، أو مقال صحفي، أو بعض الاجراءات التي تقوم بها الدولة وفيها شيء من الشدة مايولد ردات فعل غاضبة ومتشنجة تأتي بنتائج عكسية، بل يدعو لثورة ثقافية مجتمعية كبرى تواجه هذه السلوكيات والمبادىء التخريبية.
والإمام الشيرازي يركز في كل طروحاته على النصوص التي تمثل جوهر الفكر الاسلامي الذي ينتمي اليه كونها تكرس كل المفاهيم التي تقود إلى الحرية والعدل وغيرها من مكونات الحياة الحضارية، ولأنها تكشف الأقنعة التي تخفي أهدافاً تسعى لتحقيقها شبكات السياسة والاقتصاد المتاجرة بالوجود البشري من أجل تحقيق وغايات تتعلق بالأدلجة والنفوذ، بينما يركز هو على أهداف وغايات أكثر عمقاً تغوص في الحقائق الكبرى من خلال ثقافة حية يمثل التسامح بنيةً رئيسة لها، وهو عين ما يتوخاه الفكر الإسلامي المضيء من "تهذيب الإنسان وتمكينه من العيش في هذه الحياة الأولى والحياة الآخرة بأمن وسلام ، وقد تحقق ذلك في فترة حكومة القوانين الإسلامية التي طبقها رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام"2
ويقارن الإمام الشيرازي بين الرؤية الإسلامية وسائر الحضارات في قضية تهذيب النفس البشرية فيصل لنتيجة أن التهذيب الذي مارسته الحضارات المختلفة منقوص على نحو (المقتضي لا العلة التامة) كونها حضارات مادية تحفز على الازدياد والكشف فلن تستطيع اقناع النفس بالاكتفاء ما يؤدي لوصوله لمرحلة الفساد والطغيان.
إن جوهر العلاقة بين الذات والمحيط؛ يقود بسهولة ويسر إلى مفاهيم الحرية والعدالة، وغيرها من مكونات الحياة الحضارية، ولأنها تكشف الأقنعة التي تخفي أهدافاً تسعى لتحقيقها شبكات السياسة والاقتصاد المتاجرة بالوجود البشري من أجل تحقيق وغايات تتعلق بالمصالح والنفوذ، بينما يركز هو ــ جوهر العلاقة ــ على أهداف وغايات أكثر عمقاً تغوص في الحقائق الكبرى من خلال ثقافة حية يمثل التسامح بنيةً رئيسة لها، وهو عين ما يتوخاه الفكر الإسلامي المضيء.
اضف تعليق