تعني الفلسفة الرواقية التي ازدهرت في روما إلى اليونان مابين القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي؛ مزاولة الحكمة، والإيمان الفطري بالإله وتنظميه لشؤون الوجود والكون، وأن العالم يقسم إلى ثلاثة أقسام : منطق، علوم طبيعية، أخلاق، وذلك بحسب تقسيم الفيلسوف الرواقي (إقريسبوس). وأتباع الفلسفة الرواقية ومريدوها؛ يتبنون الدين كضرورة حتمية وقيمة عليا للفضيلة، وأن العقائد الدينية المختلفة للشعوب تساهم في ترسيخ التعايش والتسامح وقيم الخير، ويتبنون التسليم المطلق لله كما في قول (أقليانيتس):
"أهدني ياالله، وأنت ياقدري، إلى ذلك المكان الوحيد الذي تريدني أن أشغله. وسأتبع هديكما مسروراً".
نظرياً، يمكن النظر بشيء من اللاواقعية، وربما الانتقاد أيضاً لمتبنيات هذه الفلسفة؛ كونها قريبة من (كمال قاس) بحسب بعض الدارسين والمهتمين بها، معتقدين أنها تريد من الإنسان أن يكون وحيداً معزولاًعن عالمه. ويبدو أن اكثر منتقدي الرواقية هم من أنصار الفيلسوف سقراط القائل بالسعادة المطلقة عبر تغليب العقل على الشهوات، في الوقت الذي يرى الرواقيون أن السعادة في محاربة الشهوات وقمعها، والجنوح للزهد المفضي إلى الحرمان، وكأن الإنسان الرواقي كائن آلي.
تناول الصراع الرواقي السقراطي الافلاطوني إذا صح التعبير عدد من المفكرين كل من زاويته ورؤيته ومتبنياته؛ لإيجاد منطقة وسطى تضمن سعادة الإنسان دون تطرف أو تضخم لقيمة على أخرى. ومن الطبيعي أن يبحث المفكرون الإسلاميون ويخوضوا دراسةً وتحليلاً بهذه الجدلية، على اعتبار أن الإسلام أوجد الحل لكافة المشكلات الانسانية العابثة والمربِكة لمصيره ومستقبله منذ إيجاده وحتى نهاية البشرية.
وقد تميز المفكر الإسلامي الكبير والمجدد الثاني، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي عن غيره بتقريبه المفاهيم الإسلامية من المعاصرة، دون إغفال الوسطية المنتجة التي ينشدها الإسلام في التعامل مع القضايا التي تمس كلياً جوهر الوجود البشري. وطريقته التقريبية هذه جاءت مبنية على تأكيدات أن الفكر الإسلامي في حقيقته قابل أكثر من أي فكرة أو فلسفة مناقضة للتجديد والمعاصرة. في الفكر الإسلامي العقل والحكمة واللذة والأخلاق بأطر مسيطر عليها ولاتغليب لهذا على ذاك.
ولو تأملنا في الأطروحات الغزيرة الإمام الشيرازي التي زخرت بها مؤلفاته الكثيرة، في شؤون الدين والفقه والإنسان والتجديد؛ لوجدنا أنه اخذ منطق الحكمة الرواقية، وقشَّره وفق منظوره الإسلامي؛ ليعيد إنتاجه متماهياً مع متطلبات الحداثة والتجديد والمستقبل، وبذلك فهو يطوّر هذه الحكمة، ويأخذها لأبعاد التكامل بين قيمة الحكمة، والواقع الذي تُنتجُ فيه.
القيم منفردة في فكر الإمام الشيرازي لاتؤدي دوراً مهماً من غير الواقع والعكس صحيح، " القيم تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تضفي البعد المستقبلي للواقع. فالسياسة واقع، ولكن عندما تمتزج بالأخلاق تصبح أفقاً واسعاً لاينحصر في المصالح الضيقة، والأنانيات وبردود الأفعال الآنية كما هي اليوم بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم"1.
الحكمة هنا؛ تأخذ بنظر الاعتبار عدم تغليب طرف على طرف. والإمام الشيرازي يستشهد ببعض الشعوب التي فصلت بين القيم والواقع، أو غلّبت مثلاً طرفاً على آخر كما في التقدم العلمي والثورة التكنلوجية، من دون الالتفات لإشكالية إبعاد المقاصد القيمية والأخلاقية لهذا التطور الذي سينتج بأحادية الواقع فوضى متقنعة بالتطور والحداثة.
وبما إن الفلسفة الرواقية تعتمد الأخلاق في ضوابطها، فإن الإمام الشيرازي يضع مقاييس لتكامل الأخلاق ثابتاً على وسطيته داعياً إلى توفير الوسائل مستقبلاً للوصول لهذه المقاييس، ومن أهمها حتمية توسيع دائرة الأخلاق الحميدة متنبئاً بسيادتها في المستقبل، معللاً ذلك بأن الأخلاق الجيدة تدخل في صميم التصور العقلي، والضابط الشرعي، فضلاً عن انها من الأمور المتعلقة بفطرة الإنسان، الأمر الذي يستلزم تخطيطاً جدياً وشاملاً لتوسيع الدائرة الأخلاقية، حيث أن العكس أي سوء الأخلاق يولد حالة من انعدام الرؤيا، وتوترات تنتج عنها لاحقاً كل مسببات الجهل والتخلف.
المقياس الآخر الذي يعتمده الإمام الشيرازي لضرورة التكامل الأخلاقي هو مقياس الاعتدال الذي تناله الروح كما ينال الشهوة الجسد، فينتج عدلاً وإحساساً بالأمان الداخلي للنفس البشرية التواقة للطمأنينة. فالاعتدال يمثل علاقة بين الذات والمحيط؛ لذلك يركز في كل طروحاته على النصوص التي تمثل جوهر الفكر الاسلامي الذي ينتمي اليه كونها تكرس كل المفاهيم التي تقود إلى الحرية والعدل وغيرها من مكونات الحياة الحضارية، ولأنها تكشف الأقنعة التي تخفي أهدافاً تسعى لتحقيقها شبكات السياسة والاقتصاد المتاجرة بالوجود البشري من أجل تحقيق وغايات تتعلق بالأدلجة والنفوذ، بينما يركز هو على أهداف وغايات أكثر عمقاً تغوص في الحقائق الكبرى من خلال ثقافة حية يمثل التسامح بنيةً رئيسة لها، وهو عين ما يتوخاه الفكر الإسلامي المضيء من "تهذيب الإنسان وتمكينه من العيش في هذه الحياة الأولى والحياة الآخرة بأمن وسلام ، وقد تحقق ذلك في فترة حكومة القوانين الإسلامية التي طبقها رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين عليه السلام"2
اضف تعليق