يرى بعض الباحثين أن الدراسة تقدم أدلة جديدة تدعم الفرضية القائلة بأن فيروس سارس-كوف-2 قد انتقل من أحد الحيوانات، إِلَّا أَنَّ قوة هذه الأدلة لا ترقى إلى أن تكون قاطعة، كلاب الراكون وجرذان الخيزران وزباد النخيل: ليست سوى بعض الحيوانات التي عُثِرَ على حمضها النووي في تحليل لمسحات مأخوذة من سوق هوانان...
بقلم: سمريتي مالاباتي
يرى بعض الباحثين أن الدراسة تقدم أدلة جديدة تدعم الفرضية القائلة بأن فيروس «سارس-كوف-2» قد انتقل من أحد الحيوانات، إِلَّا أَنَّ قوة هذه الأدلة لا ترقى إلى أن تكون قاطعة.
كلاب الراكون وجرذان الخيزران وزباد النخيل: ليست سوى بعض الحيوانات التي عُثِرَ على حمضها النووي في تحليل لمسحات مأخوذة من سوق «هوانان» للمأكولات البحرية في مدينة ووهان الصينية، التي نُسِبَ إليها منشأ جائحة «كوفيد-19». وقد كشفت هذه المسحات عن وجود الفيروس المُسبب للجائحة بها، المعروف باسم فيروس «سارس-كوف-2». ويرى بعض الباحثين أن نتائج هذه الدراسة، التي نُشرت في العشرين من مارس الماضي في مستودع البحوث «زينودو» Zenodo 1، تقدم أدلة تدعم الفرضية القائلة بأن فيروس «سارس-كوف-2» قد انتقل من الحيوانات إلى البشر في السوق.
تعقيبًا على ذلك، يقول ليو بون، اختصاصي علم الفيروسات من جامعة هونج كونج: "لا شك أن هذا ليس دليلًا مباشرًا". إلا أنه استدرك قائلًا: "لكن هذا أقوى ما أمكننا التوصُل إليه من أدلة في الوقت الحالي، لأن جميع الحيوانات جرت إزالتها من هذه السوق وليس لدينا مسحات مأخوذة منها".
نُشِرت نتائج الدراسة للمرة الأولى في السادس عشر من مارس الماضي في مجلة «ذا أتلانتيك» The Atlantic. ويُعد نشرها على مستودع البحوث «زينودو»، دون الخضوع لمراجعة أقران، المرة الأولى التي يصدر فيها هذا العمل البحثي كاملًا ويُعلن عنه. وهو ما قد يمهد الطريق لإجراء دراسات متصلة للتحقق من نتائجها، لتقصي المصدر الذي أتت منه الحيوانات الموجودة في السوق، على سبيل المثال. وهذا قد يساعد في الوقوف بدقة على البقعة التي انبثقت عنها الجائحة.
وقد جُمِعَت المسحات في مطلع عام 2020، بعد إغلاق السوق وإزالة المنتجات الحيوانية منها، ولوحظ على وجه الخصوص وجود الحمض النووي الميتوكوندري لكلاب الراكون في ست عينات من المسوح المأخوذة من اثنين من أكشاك هذه السوق. فهذه الحيوانات الصغيرة الشبيهة بالثعالب عُرضة للإصابة بفيروس «سارس-كوف-2»، ويُمكِن أن تنتشر العدوى بينها دون أن تظهر عليها على نحو واضح علامات المرض2. كذلك عُثِر على كلاب راكون وقطط زباد نخل مُقنع مصابةً بعدوى فيروسية تكاد تكون مطابقة لتلك المسببة للمتلازمة التنفُّسية الحادة الوخيمة الناجمة عن فيروس «سارس-كوف-2»، والعدوى التي تسببت في تفشي موجة وبائية في عام 2003. وتشير الدراسة بالاستعانة بخلايا قطط زباد النخيل إلى أن هذه المخلوقات مُعرضة للإصابة بفيروس «سارس-كوف-2» (المرجع 33).
قائمة الثدييات المشتبه بها
استهدف الفريق البحثي الوصول إلى دليل على أن بعض الثدييات ربما اضطلعت بدور العائل الوسيط في انتشار الفيروس. واكتشف تسلسلات شبه كاملة من الحمض النووي الميتوكوندري — تتألف من حوالي 16 ألف زوج قاعدي — جاءت من خمسة أنواع من الحيوانات، تشمل كلب الراكون (Nyctereutes procyonoides)، والشيهم الملاوي (Hystrix brachyura)، والقنفذ الآموري (Erinaceus amurensis)، وقط زباد النخيل المقنع (Paguma larvata) وجرذ الخيزران الأَشْيَب (Rhizomys pruinosus). تعليقًا على ذلك، يقول أليكس كريتس-كريستوف، الذي شارك في وضع الدراسة، وهو متخصص في البيولوجيا الحاسوبية من منظمة غير ربحية ومُقيْم في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية: "إن التوصُل لقائمة بهذه الأنواع لهو اكتشاف مذهل".
وتشير دراسات أخرى إلى أن أحد أَسْلاف فيروس «سارس-كوف-2» ربما نشأ في الخفافيش، لكن الكيفية التي انتقل بها من الخفافيش إلى البشر ليست واضحة. ويشتبه العلماء في وجود عائل وسيط بين البشر والخفافيش، لكنهم لم يعثروا على أدلة قوية على ذلك، وهو ما قاد إلى الاشتباه في سيناريو بديل، وهو أن الفيروس ربما تسرَّب — عمدًا أو بطريق الخطأ — من أحد مُختَبَرات مدينة ووهان.
ولا تؤكد الدراسة الجديدة آنفة الذكر أن الحيوانات محل البحث هي نفسها مصابة بالفيروس. لكن إثبات أن هذه الحيوانات وُجدت في السوق، يشير إلى أن الجائحة كان لها منشأ حيواني، على حد ما أفاد به بعض الباحثين.
غير أن علماء آخرين أبدوا تحفظًا إزاء القفز إلى هذه النتائج التي خلصت إليها الدراسة. إذ يؤكد العمل البحثي أنواع الحيوانات التي وُجدت في السوق، لكن بالنظر إلى أنه لا يتناول بالدراسة إلا بعض العينات المسحية التي وُجد بها الفيروس، "فلا يتضمن هذا العمل البحثي أية بيانات تعزو نشأة فيروس «سارس-كوف-2» إلى أي من هذه الحيوانات"، على حد رأي جاستن كيني، اختصاصي البيولوجيا الكمية من مُختَبَر كولد سبرينج هاربور في مدينة نيويورك الأمريكية.
وفي فعالية صحفية، عُقدت يوم السابع عشر من مارس الماضي، قال تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، بعد أن أُحيط علمًا بنتائج الدراسة قبل صدور تقريرها: "لا تقدم هذه البيانات إجابة قاطعة تثبت الكيفية التي اندلعت بها الجائحة". وأضاف مستدركًا: "لكن كل خيط من البيانات يُعد ذا أهمية بالغة للاقتراب من حل هذا اللغز".
بيانات المسحات: ظهورها واختفاؤها
وَرَدَ ذكر المسحات أول مرة في مسودة بحثية أعدها جورج جاو4، المدير السابق للمركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها (China CDC)، مع فريقه البحثي، ونُشِرَت على منصة ريسيرش سكوير Research Square في فبراير من عام 2022. وطالب الفريق البحثي في مناسبات عدة الإعلان عن تلك البيانات التي أسفر عنها، لكن دون جدوى.
غير أن فلورانس ديبار، اختصاصية البيولوجيا التطورية من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والتي شاركت في وضع التقرير الأخير للدراسة، وقعت على هذه البيانات بطريق الصدفة تقريبًا على مستودع البيانات العام الخاص بـ«المبادرة العالمية لتبادُل جميع بيانات الإنفلونزا» (GISAID) في الرابع من مارس الماضي. وتقول حول ذلك: "ببسيط العبارة، كانت هذه البيانات التي انتظرنا ظهورها منذ عام".
وإجمالًا، عمدت ديبار وفريقها البحثي إلى تنزيل نحو نصف تيرابايت من هذه البيانات الجينومية من 50 عينة تقريبًا. وغطت هذه البيانات كل مسحة جُمعت خلال شهري يناير وفبراير من عام 2020، من مصارف أسواق ووهان وأكشاكها وأرضها، من جملة العينات التي تبين احتوائها على فيروس «سارس-كوف-2». وهي بيانات يصفها كريتس-كريستوف قائلًا: "نتحدث عن بيانات لتسلسلات جينية يُقدر عدد الأزواج القاعدية بها بالتريليونات".
لكن بعد وقت قصير من تنزيل الباحثين للبيانات، لم تعد مُعلنة على مستودع بيانات «المبادرة العالمية لتبادُل جميع بيانات الإنفلونزا».
وفي رسالة بريد إلكتروني أُرسِلَت إلى دورية «نيتشر» Nature، قال متحدث باسم «المبادرة العالمية لتبادُل جميع بيانات الإنفلونزا»، إن منصة مستودعها لا تحذف أية سجلات، لكن من يسهمون ببيانات في هذا المستودع يُحدِّثون في كثير من الأحيان سجلاتهم، وهو ما يجعلها "غير مرئية مؤقتًا". ويجري حاليًا "تحديث بيانات مسحات السوق بأخرى أحدث وإضافة المزيد إليها كجزء من مسودة بحثية قيد المراجعة حاليًّا". (صُنفت ورقة جاو البحثية على أنها "قيد المراجعة" في مجموعة دوريات «نيتشر بورتفوليو» Nature Portfolio. وتجدر الإشارة إلى أن الفريق الإخباري لدورية «نيتشر» Natureمستقل عن جهة نشرها، شركة «سبرينجر نيتشر» Springer Nature، القائمة بنشر دوريات مجموعة «نيتشر بورتفوليو» Nature Portfolio).
فرصة تعاوُن بحثي غير مطروقة
تفيد ديبار وفريقها البحثي بأنهم تواصلوا مع واضعي تلك المسودة البحثية والمركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها بهدف التعاون لإجراء دراسة في هذا الصدد. غير أن المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها رفض خوض هذا التعاوُن البحثي. وفي الرابع عشر من مارس الماضي، عرض فريقها البحثي، بالتعاوُن مع أفراد من المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها، دراسته على منظمة الصحة العالمية في اجتماع لـ«المجموعة الاستشارية العلمية المعنية بأصول مُسَبِبات الأمراض الجديدة»، وهي هيئة مُكَلَّفة بتقصي جوانب فاشيات الأمراض، ومن بينها نشأة فيروس «سارس-كوف-2».
وفي المؤتمر الصحفي الموجز الذي عقدته منظمة الصحة العالمية في السابع عشر من مارس الماضي، دعا تيدروس أدهانوم غيبريسوس باحثي المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها إلى التحلي بالشفافية في مشاركة البيانات، معلقًا على ذلك بقوله: "هذه البيانات أمكن، بل كان ينبغي، مشاركتها قبل ثلاث سنوات".
ولم يرد الباحث جاو على مطالبات دورية «نيتشر» Natureبالحصول على إفادته بالرأي في هذه المسألة.
وتقر ديبار بأن مشاركة هذه البيانات قد استغرقت وقتًا طويلًا، لكنها في الوقت نفسه تشيد بالجهود التي نهض بها المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها فيما يتعلق بجمع العينات من بيئات انتشار الفيروس، وتعيين تسلسله الجينومي. وقد امتدحت جهود المركز تلك قائلة: "لقد اتخذت ما يلزم من إجراءات. ولولا مساعيها البحثية، ما كنا لنتوصَّل إلى هذه البيانات".
وجدت دراسات سابقة أن جرذان الخيزران الصينية (Rhizomys sinensis) وكلاب الراكون بيعت في سوق «هوانان» في الفترة بين مايو من عام 2017 ونوفمبر من عام 2019 (انظر المرجع 55)، وأن أكشاكًا عديدة كانت تبيع على الأرجح ثدييات حية أو مقتولة حديثًا أو غيرها من منتجات اللحوم6. وهو ما يؤكده المشارك في الدراسة جويل ويرثيم، اختصاصي الدراسات الوبائية الجزيئية من جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييجو، قائلًا: "ما اعتقدنا تحديدًا أنه وُجد في السوق تبين أنه كان هناك بالفعل".
فمعظم العينات التي اتضح احتواؤها على فيروس «سارس-كوف-2» ومعظم العينات التي وُجد بها الحمض النووي لحيوانات برية، عُثر عليها في المنطقة نفسها. حول ذلك، يقول بون: "هذا يؤيد الفرضية القائلة بأن الفيروس ربما يكون قد نشأ بين حيوانات ما". ويشير بون إلى أن العديد من المسحات التي ثبت وجود الفيروس بها مما جمع من عينات من القسم الشرقي من السوق احتوى على حمض نووي بشري، وهو ما يشير إلى أن بعض حالات انتشار الفيروس بين البشر حدثت في تلك السوق في مطلع عام 2020.
وفي إحدى العينات التي جُمعت من عربة تُستَخدَم لتحريك أقفاص الحيوانات، وجد الباحثون مواد وراثية مطابقة لتسلسلات جينوم كلاب الراكون، ونزر يسير من مواد وراثية أخرى لتسلسلات جينومية بشرية. حول ذلك، يقول بون: "الفرضية الأكثر منطقية هي أن كلاب الراكون أُصيبَت بفيروس «سارس-كوف-2» ونثرت الفيروس".
لكن ربما كان الموقع ملوثًا بالحمض النووي الريبي لفيروس «سارس-كوف-2» من مصادر أخرى. وهو ما يوضحه كيني قائلًا: "لا دليل على أن الفيروس جاء من كلب راكون مُصاب به؛ إذ يمكن بالبساطة نفسها زعم أنه جاء من شخص مُصاب به".
بيانات مطلوبة
يفيد كريتس-كريستوف بأن فحوص الطب الشرعي قد تتيح لنا المزيد من الرؤى المتعمقة من واقع البيانات إذا أُتيحت علنًا مرة أخرى. فعلى سبيل المثال، بفحص نسبة الحمض النووي الريبي إلى نسبة الحمض النووي لأنواع الحيوانات المختلفة، قد يقف الباحثون على وقت دخول تلك الحيوانات سوق ووهان مؤخرًا، لأن الحمض النووي تستمر آثاره في البيئة عادة لفترة أطول من الحمض النووي الريبي. غير أنه، على حد تعبير ويرثيم، ثمة حاجة إلى مزيد من التفاصيل حول الآليات التي جرت بها عمليات جمع العينات ومعالجتها وتعيين التسلسل الجيني بها.
ويضيف كريتس-كريستوف أن دراسة بيانات الحمض النووي الريبي عن كثب وبعناية قد تحسم ما إذا كان الفيروس قد أصاب الحيوانات التي وُجدت آنذاك في السوق، أم لا. والسؤال هنا، على حد قوله، هو: هل يبدو من الفحوص أن هذه الحيوانات "كانت مريضة أم سليمة؟" . ويضيف: "تثير البيانات الكثير من الأسئلة الرائعة والمعقدة".
وثمة بيانات أخرى لم يجر بعد الإفصاح عنها، من ضمنها بيانات المسحات البيئية التي ثبت خلوها من فيروس «سارس-كوف-2». ويرى ويرثيم أن من الأهمية بمكان تحليل هذه البيانات من أجل تكوين صورة أفضل عما جرى في تلك السوق.
اضف تعليق