في عام 2022، طفِقت الحياة تعود إلى ما كانت عليه قبل اندلاع جائحة كوفيد-19 في بلدان كثيرة، بعد تخفيف التدابير التي فُرضَتْ بقصد السيطرة على الوباء. فقد رفعَتْ الحكومات تدابير الإغلاق، وأعادت فتح المدارس، وألغت قراراتها بفرض ارتداء الكمامات في الأماكن العامة، فضلًا عن استئناف رحلات الطيران الدولية...
مشاهد مُقلقة في الصين تُظهر أن الجائحة لم تلملم كلَّ أذيالها بعد.. والتركيز على تعزيز أنظمة الصحة العامة يمثل مخرجًا من هذا المأزق.
في عام 2022، طفِقت الحياة تعود إلى ما كانت عليه قبل اندلاع جائحة «كوفيد-19» في بلدان كثيرة، بعد تخفيف التدابير التي فُرضَتْ بقصد السيطرة على الوباء. فقد رفعَتْ الحكومات تدابير الإغلاق، وأعادت فتح المدارس، وألغت قراراتها بفرض ارتداء الكمامات في الأماكن العامة، فضلًا عن استئناف رحلات الطيران الدولية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ خرج علينا قادةٌ كُثُر بتصريحات مِلؤها التفاؤل. ففي يناير من عام 2022، أعلنت ميته فريدريكسن، رئيسة وزراء الدنمارك، أن فيروس «سارس-كوف-2» SARS CoV-2 لم يعد يشكل تهديدًا للمجتمع. وفي سبتمبر من العام نفسه، صرح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خلال لقاء مُتلفز، أن الجائحة قد ولَّت. كما أعرب تيدروس أدهانوم جيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، عن أمله في رفع حالة الطوارئ الصحية العالمية، التي أُعلنَتْ على أثر تفشِّي جائحة «كوفيد-19»، خلال عام 2023.
هذه التصريحات تُجافي الواقع، ولا تعكس حجم الدمار الذي لم يزل يحدث من جرَّاء هذا المرض. ظهر هذا التناقض أوضحَ ما يكون في الصين – رغم أنها من أواخر الدول التي رفعت تدابير مكافحة الجائحة – إذ تخوض هذه الأيام معركتها مع سلالة «أوميكرون»Omicron المتحوِّرة، سريعة الانتشار. والمشاهد والأوضاع الراهنة في المستشفيات الصينية تعيد إلى الأذهان حالة الفوضى التي عمَّت مستشفيات هونج كونج عندما استشرت هناك السلالة ذاتها قبل قرابة العام. لا يبعُد أن تكون الصين قد شهدت في الآونة الأخيرة تفشيًا واسع النطاق للعدوى، برغم قرار الرئيس الصيني، شي جين بينج، بإلغاء سياسة «صفر كوفيد» في ديسمبر المنصرم. لكن التوقعات تشير إلى احتمال وفاة قرابة المليون شخص خلال هذا العام، ناهيك عن انتشار ظاهرة التغيُّب عن العمل، وما يترتب على ذلك من اضطرابات اقتصادية في الصين والعالم بأسره.
تجدر الإشارة إلى أن السواد الأعظم من سكان الصين غير مؤهلين مناعيًا ضد «أوميكرون»، وهي السلالة المتحورة السائدة حاليًا، نظرًا لعدم تعرضهم لأي متحور من متحورات «سارس-كوف-2»، واقتصار اللقاحات التي يتلقونها – إنْ كانوا قد تلقَّوا أي لقاح - على لقاحات مضادة للسلالة الأصلية للفيروس. وأكبر الظن أن الصين سوف تفطن إلى ما فطنت إليه – العامَ الماضي – البلدان التي لم تتعرض في السابق إلا لهجمات فيروسية محدودة النطاق والحدة: وهو أنه لن تكون هناك موجة «خروج» واحدة، يمكن معها إعلان زوال خطر الفيروس، إيذانًا برفع القيود إلى الأبد. ولكن، على النقيض من ذلك، يُحتمل تتوالى موجات العدوى والوفَيَات الناجمة عنها، واحدةً تلو الأخرى، من جرَّاء المتحورات الفيروسية الجديدة، التي إما تظهر بين السكان، أو تَفِد إليهم من الخارج، مع فتح الدولة حدودها أمام الوافدين.
إذا نظرنا خارج الصين، سنجد أن توالي موجات التفشِّي الفيروسي والوفيات الناجمة عنه يعني أن هناك خسائر متلاحقة، تُضاعف من الدمار الذي أحدثته الجائحة. ثم إن التركيز على «كوفيد-19» قد أتى على حساب جهود مكافحة أمراض أخرى، مثل الإيدز والملاريا والسل. والملاحَظ، رغم صعوبة الحصول على إحصاء دقيق، أن معدلات الوفيات الإجمالية في العديد من البلدان لا تزال أعلى مما كانت عليه قبل أن تنزل بها جائحة «كوفيد-19».
في غمرة هذه التفشيات، توقفت حملات التطعيم في عديد من البلدان. وفي بعض هذه البلدان، كانت معدلات الحصول على الجرعات المعزِّزة (أو التنشيطية) هزيلةً للغاية، على فعاليتها الكبيرة في تقليل نسب الوفيات والإصابات الحادة.
أحد الحلول التي من شأنها إحياء جهود التطعيم يتمثل في الاستعانة بالتكنولوجيا. هناك محاولاتٌ تجري الآن على قدمٍ وساقٍ لتطوير لقاحات مخاطية، تُعطى عبر الأنف أو الفم، ويُؤمَل أن تنجح هذه اللقاحات في إكساب الجسم مناعة مُعَقِّمة (sterilizing) تحُول دون انتقال العدوى، ولا تقتصر على منع الإصابات الحادة. وفي هذا الصدد، صرَّحت الصين باستخدام جرعات معزِّزة قابلة للاستنشاق، ولقاح أنفي، وقررت الهند استخدام جرعتين من اللقاح الأساسي على هيئة قطرات في الأنف. وعلى صعيد متصل، صرحت إيران وروسيا باستخدام لقاح مخاطي. إلا أن الباحثين لا يزالون يترقبون البيانات التي من شأنها أن تكشف مدى مقدرة أي من هذه اللقاحات على الوفاء بالمنتظَر منه: وقف انتشار الفيروس.
هناك متغيِّر قد يبدد هذه الأريحية في التعامل مع «كوفيد-19»، يتمثل في توقعات ظهور واحد على الأقل من «مُتحوِّرات الفيروس المثيرة للقلق» (VoCs) خلال عام 2023، على غرار ما حدث في عام 2022. ولكن يُراعى هنا أن التصنيف «مُتحوِّر مثير للقلق» (متبوعًا بحرف يوناني تحدده منظمة الصحة العالمية) لن يُطلَق على المُتحوِّر ما لم يكن قادرًا على مراوغة جهاز المناعة، متسبِّبًا في زيادة الإصابات الحادة بالمرض، والانتشار بوتيرة أسرع مقارنة بالمُتحوِّرات الأخرى المنتشرة حاليًا. وإذا ظهر واحد من هذه المتحورات المثيرة للقلق، فسوف يكون لزامًا اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان حصول المطعَّمين تطعيمًا كاملًا – ونخص بالذكر منهم كبار السن ومنقوصي المناعة – على جرعات معزِّزة.
وظهور مُتحوِّر جديد يجب أن يُقابَل كذلك بمضاعفة جهود التطعيم في الدول ذات الدخل المنخفض. لقد أُنشئَتْ الشراكات العالمية، ومنها مبادرة «كوفاكس» COVAX، بهدف ضمان الوصول العادل إلى لقاحات «كوفيد»، إلا أنها خابت مساعيها بسبب حرص الدول الغنية على إعطاء الأولوية لشعوبها، على حساب شعوب البلدان صاحبة الدخل المنخفض والمتوسط، التي أتتها اللقاحات على فترات متقطعة، وقبل فترات قليلة من تاريخ انتهاء صلاحيتها، ما فاقم التحدي المتمثل في وصول هذه اللقاحات إلى المناطق التي تعاني من ضعف مرافق الرعاية الصحية لديها.
وفي المحصلة، لم يتلقَّ تطعيمَ «كوفيد» – جرعة واحدة أو أكثر – من سكان البلدان منخفضة الدخل سوى الرُّبع. ومع أنه يتحتم على كثير من البلدان منخفضة الدخل العودة إلى الاهتمام بالمسائل الصحية الأخرى، مثل مكافحة الملاريا والسل، والتصدي لمشكلة وفيات الأطفال، وهي المسائل التي هُمِّشت في خضم تعرضها لأسوأ هجمات الجائحة، إلا أن تجاهل حجم الأضرار المترتبة على «كوفيد-19» يضع كل هذه الجهود على المحك.
حري بالمجتمع العالمي أن يجد طريقة للتعامل مع السياسات وديناميات القوة التي قوَّضت المبادرات الهادفة إلى ضمان حصول جميع الدول على اللقاحات متى احتاجت إليها. ما لم يحدث ذلك، ستغدو الاتفاقات العالمية المستقبلية عرضة لمواجهة السيناريو ذاته في أوقات الأزمات. في مايو المقبل، من المزمع أن تقدم «هيئة التفاوض الحكومية الدولية»، التابعة لمنظمة الصحة العالمية، تقريرًا مرحليًا عن المداولات حول إصدار صك دولي – يشبه المعاهدة الدولية – بشأن سُبل التأهب للجوائح والتعامل معها. ومن جهتها، ترى البلدان التي لم تُتَح لها فرصة الوصول في الوقت المناسب إلى لقاحات «كوفيد-19» وفحوصه وعلاجاته، أن الاتفاقية يجب أن تضمن وصولًا عادلًا إلى الموارد متى ظهرت تهديدات وبائية في المستقبل.
ولكن، مع تحول الانتباه نحو الاستعداد لمواجهة «المرض القادم» - الذي قد يُسبِّب الجائحة – ينبغي أن نعي أن الاستهانة بـ«كوفيد» من شأنها أن تُفضي إلى تقويض أنظمة الرعاية الصحية التي كانت تئن تحت وطأة ضغوط الجائحة طوال السنوات الثلاث الماضية. ويجب على دوائر الصحة العامة مواصلة تعزيز القدرة على تصنيع اللقاحات في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، واضعةً نُصْبَ أعيُنها الحقيقة التي أكدتها التجربة منذ عام 2020: وهي أن أنظمة الرعاية الصحية الواهية والمُثقَلة تعجز عن التعامل مع التهديدات الجديدة.
اضف تعليق