لقد أحدثت جائحة كوفيد-19 نقلةً في تطوير اللقاحات، وبفضلها أصبح هناك لقاحات جديدة للعديد من الأمراض في طور الإعداد، لدينا فرصة للاستفادة من أحدث الأساليب والتقنيات، وكذلك اغتنام فرصة الشعور العام بالضرورة المُلحَّة لإنتاج تلك اللقاحات، ولما كان الأمر كذلك، فليس لنا أن نستمر في اتباع النهج القديم...
بقلم: سيث بيركلي
في غياب استراتيجية عالمية مموَّلة حكوميًّا، سيعجز السوق عن تأمين اللقاحات اللازمة للتصدي للأوبئة قبل أن تجتاح العالم.
قبل بضعة أسابيع، كنتُ في زيارةٍ إلى «مستشفى مولاجو الوطني للإحالة»، في العاصمة الأوغندية كمبالا، حيث كنت أعمل في السابق. يحتضن المستشفى هذه الأيام أحد أجنحة عزل المصابين بفيروس «إيبولا» في أوغندا. وخلال زيارتي، وقفتُ على بعض التحديات التي تواجه الحكومة والعاملين في مجال الرعاية الصحية لاحتواء هذا التفشي المفزع للفيروس، في ظل غياب الأداة الأكثر فعَّالية: اللقاحات. أودَتْ سلالة فيروس «إيبولا» المتفشية في السودان بحياة 56 شخصًا، وانتشرت في تسع مناطق في أوغندا، بما في ذلك العاصمة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، وكذلك المناطق الحدودية. إذا انتقل الفيروس إلى البلدان المجاورة، فقد يترتب على ذلك إلى حدوث أزمة تشمل الإقليم بأكمله.
كان من الممكن تجنُّب هذا كلِّه. ليس هناك لقاحات أو علاجات فعّالة مصرَّح بها ضد سلالة فيروس «إيبولا» المتفشية في السودان. ولو كان العالم قد تعلَّم الدرس من حالات تفشي «إيبولا» السابقة، فضلًا عن جائحة «كوفيد- 19»، لكان من الممكن أن تكون اللقاحات جاهزة للاختبار الإكلينيكي في بداية هذه الفاشيَّة الأخيرة؛ ما يعني أن غياب لقاح للإيبولا حتى الآن إنما هو بمثابة فشل عالمي.
وقد رأينا كيف تكاتف العالم من أجل إنتاج مليارات الجرعات من لقاحات «كوفيد-19»، أما عندما يتعلق الأمر بتطوير لقاحات للوقاية المُسبقة من المرض في المقام الأول، فلا يزال العالم في غفلة. لا يوجد حتى الآن أي حافز يدفع القطاع الخاص إلى تطوير لقاحات يمكنها أن تحد من تفشي المرض، حتى لو كانت التقنية اللازمة مُتاحة. وإذا كنا لا نملك لقاحات جاهزة للتصدي للتهديدات الخطيرة المعروفة، مثل «إيبولا»، فكيف لنا أن نتصدَّى للتهديدات الوبائية التي يخبِّئها لنا المستقبل؟
لقد حذرت من هذه المشكلة قبل سبع سنوات، في عمودٍ نشرَتْه مجلة Nature (S. Berkley Nature 519, 263; 2015). ومع ذلك، ورغم جرس الإنذار الذي قرَعَتْه جائحة «كوفيد-19»، لا تزال مشكلة اللقاحات ماثلةً بوصفها أحد أكبر الثغرات في درع التأهب لمواجهة الأوبئة.
يمكن للحكومات أن تتفادى تفاقُم هذه الأزمة من خلال تطوير اللقاحات الفعّالة ضد الأمراض الفتّاكة وإتاحتها، وذلك عن طريق تتبُّع مخالطي المرضى، وتطبيق مبدأ «التطعيم الحَلَقي» عليهم: وفي حالة فيروس «إيبولا»، يمكن تطعيم بضع عشرات من الأشخاص المخالطين لكل شخص مصاب. على أنَّ إنتاج عدد قليل من الجرعات اللازمة لمنع الانتشار يظل خيارًا غير مربح لشركات الأدوية، كما أن التردد يساور الحكومات المانحة، خشيةَ إهدار الأموال على اللقاحات الوقائية التي قد لا تُستخدم بالمرة.
لا نجد وصفًا لهذا الموقف إلا أنه "ضيق الأفق". فإتاحة اللقاحات الوقائية مقابل بضعة ملايين من الدولارات لكل دفعة تعتبر ضمانًا زهيدًا لتجنب تكرار إنفاق العالم 12 تريليون دولار أمريكي مؤخرًا في مكافحة جائحة «كوفيد-19».
ولمَّا كان خطر تفشي الأوبئة في المستقبل آخذًا في الازدياد، يجدر بالجميع أن ينتابه شعور بالقلق بسبب فشل شركات القطاع الخاص في توفير اللقاحات. وحتى في ظل انتشار الفيروس المسبِّب لجائحة «كوفيد-19»، هناك فرصة بنسبة 2% لتفشي جائحة جديدة في سنةٍ ما؛ خاصةً مع حضور العوامل التي تساعد على تفشي الأمراض وتفاقمها على نحوٍ أسرع، التي تشمل تغير المناخ، والزيادة السكانية، والتوسع العمراني، والهجرة البشرية.
ليس لدينا دفاعات نواجه بها الجوائح أفضل من لقاحات جاهزة للتوزيع لحظة وقوع الكارثة. والحق أن منظمة الصحة العالمية تملك قائمة من تسعة مسبِّبات للأمراض قادرة أكثر من غيرها على أن تتسبب في حدوث جائحة، منها المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس) SARS و«إيبولا»، بالإضافة إلى المرض «X» الذي يمثل أحد مسببات الأمراض المحتملة غير المكتشَفة بعد. هذه المُمْرضات التسعة تستلزم بذل كل الجهود الممكنة، التي تشمل تطوير العديد من اللقاحات المقترحة من خلال نماذج حيوانية للأمراض ومراحل الاختبار الإكلينيكي المبكرة، واللقاحات المعبأة في قناني زجاجية والتي اجتازت اختبارات الجودة، بحيث تكون جاهزة للاختبار الفوري في حالة تفشي المرض، وكذلك تخزين الجرعات الكافية للسيطرة على المرض في حال ثبتت فعّالية اللقاح. وفيما يتعلق بالمرض «X»، ينبغي أن تكون مجموعة النواقل الفيروسية وأنظمة انتقال الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA) جاهزة لحمل تسلسلات أي مستضدات ثبتت فعاليتها ضد المرض، كما يجب العمل على تصنيع اللقاحات وإخضاعها للتجارب الإكلينيكية قدر الإمكان. إن استباق التفشيات الفيروسية بالكثير من التجارب الإكلينيكية وقبل الإكلينيكية من شأنه أن يُتيح لنا جرعات تكون جاهزة للاستخدام عند الحاجة إليها.
ماذا نحتاج لإحداث تغيير لا يجعلني مضطرًا إلى كتابة الشيء نفسه بعد سبع سنوات أخرى؟ الحقُّ أننا قطعنا شوطًا طويلًا؛ فبعدما كنا بالكاد نتطرَّق لهذه القضية من الأساس، حلَّت بنا هذه الجائحة التي أصبحت تجري على ألسنتنا كلَّ يوم. إنني متفائل بحدوث تغيير في طريقة التفكير.
الخطوة الرئيسية الأولى تتمثل في تأسيس سوق قادر على أداء هذا الدور، على أن يكون مدعومًا من الحكومات. نأمل أن يقود ذلك وضع استراتيجية عالمية مُنسَّقة مدعومة من حكومات دول مجموعة العشرين لدفع البحث والتطوير والتصنيع المرن على نطاق صغير لإنتاج لقاحات للتصدي للأوبئة، حتى لو لم تكن هناك حاجة إليها.
وعلى الدول الغنية أن تأخذ بزمام المبادرة في هذا المسعى. يُنتظر من هذه البلدان التأكد من أن هيئاتٍ مثل »تحالف الابتكارات الهادفة إلى التأهب للأوبئة« (CEPI)، ومقره العاصمة النرويجية أوسلو، و»المبادرة الدولية للقاحات الإيدز« (IAVI)، التي يقع مقرها في مدينة نيويورك، لديها من الأموال ما يكفي للنهوض بهذا الدور، الذي سوف يتضمَّن تعاونًا وثيقًا مع الجهات البحثية الحكومية بالإضافة إلى »التحالف العالمي للقاحات والتحصين« (Gavi) و»تحالف اللقاحات«، ومنظمة الصحة العالمية.
وفيما يتعلق بسلالة فيروس «إيبولا» المتفشية بالسودان، وقع الاختيار على ثلاثة لقاحات مقترحة في مرحلة الاختبار المبكر بعد عملية البحث والتطوير التي تمت بالشراكة بين «تحالف الابتكارات الهادفة إلى التأهب للأوبئة»، و«المبادرة الدولية للقاحات الإيدز»، و«معاهد الصحة الوطنية الأمريكية»، و«الهيئة الأمريكية للبحث والتطوير الطبي الحيوي المتقدم»، وغيرها من المؤسسات. خلال الأسبوع الأول من الشهر الجاري، تلقت أوغندا أول شحنة لقاح للتجارب المقررة. ولكن بالنسبة إلى الأشخاص الـ65 الذين راحوا ضحيَّة الفيروس، والمصابين البالغ عددهم 142 شخصًا، أتت هذه التجارب متأخرة. وبالنظر إلى أنه لا توجد حاليًا إصابات جديدة، فربما يكون أوان قياس فعَّالية اللقاح قد فات.
لقد أحدثت جائحة كوفيد-19 نقلةً في تطوير اللقاحات؛ وبفضلها أصبح هناك لقاحات جديدة للعديد من الأمراض في طور الإعداد. لدينا فرصة للاستفادة من أحدث الأساليب والتقنيات، وكذلك اغتنام فرصة الشعور العام بالضرورة المُلحَّة لإنتاج تلك اللقاحات. ولما كان الأمر كذلك، فليس لنا أن نستمر في اتباع النهج القديم، المتمثل في محاولة إصلاح الأمور بعد فوات الأوان. إذا ركنَّا إلى النموذج المعتمِد على آليات السوق، حيث لا تُنتَج ملايين الجرعات إلا بعد انتشار الوباء، فسوف يكون ذلك هو الإخفاق بعينه.
اضف تعليق