أودَتْ الجائحة بحياة قرابة 18 مليون شخص، وتسببت في إحداث إعاقات لعدد يزيد عن ذلك بكثير، وسددت ضربات قاصمة للاقتصاد العالمي. ومع ذلك، تباطأت معدلات رصد تطورات الفيروس، ومراقبتها، في وقتٍ أخذت فيه السلالة «BA.2» (وهي السلالة الفرعية، شديدة العدوي، من المتحور «أوميكرون») تتفشَّى في شتى أرجاء المعمورة...
يتحدث القادة السياسيون في عديد من البلدان ذات الدخل المرتفع، ويتصرفون، على نحوٍ يوحي بأن متابعة تطورات جائحة «كوفيد-19» باتت أمرًا لا يستحق قدرًا كبيرًا من الاهتمام.
أودَتْ الجائحة بحياة قرابة 18 مليون شخص، وتسببت في إحداث إعاقات لعدد يزيد عن ذلك بكثير، وسددت ضربات قاصمة للاقتصاد العالمي. ومع ذلك، تباطأت معدلات رصد تطورات الفيروس، ومراقبتها، في وقتٍ أخذت فيه السلالة «BA.2» (وهي السلالة الفرعية، شديدة العدوي، من المتحور «أوميكرون») تتفشَّى في شتى أرجاء المعمورة، ليتَّجه على أثر ذلك منحنى الإصابات نحو الارتفاع من جديد.
هذا التراخي في متابعة تطورات الجائحة ليس مبنيًّا على أسسٍ علمية، وإنما يتكئ إلى دوافع سياسية قد تجني على العالم عواقب وخيمة. ترى ماريا فان كيروف، التي تتولى الإدارة الفنية لاستجابة منظمة الصحة العالمية لجائحة «كوفيد-19»، أن من الأهمية بمكان "تعزيز الأنظمة التي وُضعت للاضطلاع بمهام التقصِّي الوبائي، والفحص، وتعيين التسلسل الجينومي للفيروسات، وعدم تعطيلها".
وقد لوحِظ تراجُع معدل إعداد التقارير الوطنية حول الجائحة على مستوى العالم، حسبما صرَّح مسؤولو النشر في الموقع الإلكتروني «آوَر وورلد إن داتا» Our World in Data، ليصبح دون الخمسة تقارير أسبوعيًا، وهي المرة الأولى التي تتراجع فيها المعدلات إلى هذا الحد منذ الشهور الأولى من تفشي الجائحة. ومع أن «المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها» (CDC) تواظب على مشاركة بياناتها حول الجائحة على المستوى الفيدرالي، فإن التقارير الفورية حول أعداد الإصابات والوفيات على مستوى الولايات أصبحت شحيحة؛ فجميع الولايات، عدا ثمانٍ منها، تراجعت وتيرة إبلاغ البيانات فيها إلى خمسة أيام أو أقل أسبوعيًا، بل وأعلنت ولاية فلوريدا، الأسبوع الماضي، أنها لن تشارك بياناتها سوى مرة واحدة كل أسبوعين.
كما أوقفت لوحة متابعة تطورات «كوفيد-19»، التابعة لحكومة المملكة المتحدة، التي تعد واحدة من أكثر لوحات المتابعة شمولًا على مستوى العالم، تحديثاتها التي تُصدرها نهاية كل أسبوع حول أعداد الإصابات والوفيات، ومعدلات إيداع المرضى بالمستشفيات، وبيانات التطعيم؛ إذ تجمع بيانات يومَي العطلة الأسبوعية (السبت والأحد) إلى بيانات يوم الاثنين، وتعرضها مُجمَلة دون تفصيل. وفي تعليقه على هذا الإجراء، صرَّح رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بأن هذا الإجراء يأتي في إطار الخطط الموضوعة من أجل "التعايش مع الجائحة".
صحيحٌ أن الاتجاه نحو خفض وتيرة الإبلاغ عن بيانات «كوفيد-19» ليس في ذاته بالأمر الفادح، إلا أنه مؤشر على صور أخرى للتهاون مع الفيروس. فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، تعتزم الامتناع عن إتاحة الفحوص التشخيصية بالمجَّان، فضلًا عن وقف العمل في كثير من البرامج التي سبق أن أطلقَتها لجمع البيانات. أضف إلى ذلك أن برنامج «ريآكت-1» REACT-1، الذي يقوم على إعداد دراسات ممتدة لإجراء فحوص عشوائية، لن يحصل على التمويل المقدَّم من الحكومة مع نهاية الشهر الجاري؛ وكذلك توقف التمويل العام لتطبيق «زوي» ZOE، وهو التطبيق الهاتفي الذي يستخدمه المقيمون بالمملكة لتسجيل أعراض «كوفيد-19»، وقد كان لهذين الأخيرين أهمية بالغة لإجراء الأبحاث ووضع السياسات ذات الصلة بالجائحة.
على أن الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ بالنظر إلى ما يُلحَظ من اتجاه دول عديدة إلى الأخذ بنهج «التعايش مع الجائحة». ولا شك أن الميزانيات الوطنية في بلدان العالم أجمع تواجه ضغوطًا هائلة، بينما تسعى تلك البلدان إلى زيادة الدعم المقدَّم إلى الوقود والغذاء، لاسيَّما أن العالم لم يكَد يفلت من آثار الجائحة، إلا ليسقط في مستنقع آثار الحرب التي تدور رحاها على الأراضي الأوكرانية. ورغم ذلك، فإن التراخي في إجراءات التقصِّي الوبائي في هذا الوقت لا ينمُّ إلا عن نظرة قاصرة؛ فالأمر يشبه توقُّف المريض عن استكمال دورة العلاج بالمضاد الحيوي مع ظهور أولى علامات التحسن، وهو ما يجعله عُرضة لعودة المرض على نحو أشد ضراوة. وفي هذا الصدد، تشير دراسةٌ، نُشرت الأسبوع الماضي، إلى أن المتحور القادم من الفيروس قد يفوق في خطورته سائر المتحورات التي ظهرت حتى وقتنا هذا (P. V. Markov et al.Nature Rev. Microbiol. https://doi.org/hk3q;2022).
لابُد أن تستند القرارات المتعلقة بالصحة العامة إلى أفضل البيانات المتاحة، وأعلاها جودةً، ومن ثمَّ فإن القعود عن متابعة الفيروس، والاستجابة لتطوراته، في الوقت الذي لم يتلقَّ فيه أغلب سكان الغالب اللقاح، يخفض منسوب الثقة في تلك القرارات، ويحُد من قدرة الأفراد على اتخاذ القرارات المناسبة لسلامتهم.
ولعل أكثر ما يثير الامتعاض في هذا الشأن، أن تقليص الإجراءات المتعلقة بالصحة العامة عادةً ما يأتي مصحوبًا برسائل فحواها أن الأفراد صاروا مسؤولين عن اتخاذ التدابير التي تضمن سلامتهم. من ذلك، على سبيل المثال، أن «المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها» تدعو الأفراد المعرضين لتداعيات «كوفيد-19» الخطيرة إلى "استشارة مقدم الرعاية الصحية الخاص بهم" بشأن ارتداء الكمامات في أثناء المستويات المتوسطة من انتشار العدوى بالمجتمع، هذا في الوقت الذي يُحال فيه بين الأفراد وبين الحصول على بيانات انتشار العدوى.
لقد بذل الباحثون جهودًا حثيثة، كما ظهر جليًّا على صفحات العدد الأخير من دورية Nature، من أجل إتاحة مصادر عديدة للبيانات حول الفيروس، عبر كثيرٍ من لوحات المتابعة المعروفة. وبفضل أدوات مثل «لوحة متابعة فيروس كرورنا (كوفيد-19)»، التابعة لمنظمة الصحة العالمية، وأداة «آوَر وورلد إن داتا»، و«لوحة متابعة كوفيد-19»، التابعة لجامعة جون هوبكنز، كلًا من الحكومات، والشركات، والأفراد من الاستفادة من أوثق الأدلة المتاحة لاتخاذ القرارات. وعليه، فإن إقدام الحكومات على سدّ القنوات التي تغذي تلك الأدوات بالبيانات، يعني أنها تغمض أعينها عن الخطر. وإذا واصلت الحكومات السير على هذا الطريق، فإن مبدأ التعايش مع الجائحة، على هذا النحو، لن يكون في جوهره إلا حالةً من الأمان الزائف، الناتج عن الجهل بوجود الخطر.
اضف تعليق