في كتابه (لماذا الغيبة)، يستعرض آية الله الفقيه الشهيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره)، منطلقات الحاجة للمنقذ والإيمان بحتمية وجوده وتأكيد دوره العظيم؛ لإيصال قارئه لخلاصة مهمة جداً تتلخص بعدم الفصل بين السياق العقائدي والإيماني لفكرة الغيبة وبين الهاجس الإنساني والطموح بوجود منقذ البشرية...
حتى وإن ارتبطت فكرة ظهور الإمام المهدي (عج) ليملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئت ظلماً وجورا بعقيدة معينة؛ فإنها وبقراءة متجردة وفاحصة تمثل أملاً حضارياً يرتقي بالإنسان وقيمته بوصفه خليفة الله في الأرض. ويمكن لنا تبيان شكل من أشكال المهدوية الحضارية من خلال تركيز المعنيين بالمهدوية على قضية الاعداد والتهيئة لحضوره وما يستلزم ذلك من أخلاقيات وممارسات يقوم بها الفرد من أجل تحقيق غاية خلاص البشرية من صور الظلم وتمظهرات الاضطهاد القامع للإنسان. وواهم كل من يعتقد أن أصل الفكرة خاضع لمُسَلَّمة عقائدية فحسب؛ لأنه في هذا الاعتقاد يعطل فاعلية التأمل في الفكرة وأبعادها، الأمر الذي يعني أنه عَطَّلَ أو تعطَّل عند التفكير في المرتكزات الفكرية لأصل الفكرة المهدوية.
وكثير من فقهاء العالم الإسلامي تناولوا هذا الموضوع، وأسهبوا في الحديث عنها من خلال تهيئة مجتمع توحيدي يخلو من مظاهر البراغماتية الأنانية والميكافيلية الانتهازية. مجتمع يمثل عالمية الإسلام المتسامح، الذي يتصالح فيه أفرادهم مع ذواتهم ومع الآخرين حتى مع اختلافهم عقائدياً وفكرياً انطلاقاً من القاعدة القرآنية "وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم". ذلك المجتمع الذي يعد لظهور الإمام المهدي (عج) هو مجتمع العدالة الاجتماعية، ومجتمع السلم ونبذ مظاهر العنف والتطرف، والإيمان بقيمة الإنسان وقيمة العمل والاجتهاد، والأمل بالله وعدم الاستسلام لمظاهر اليأس التي تجعله ضعيفاً مستلباً. مجتمع يفهم الانتظار مقروناً بقيمة العمل لا الاتكالية وهو مايمكن وصفه بـ (الانتظار الايجابي) الذي يجعل الإنسان صلباً في مواجهة المظاهر المادية المستفحلة وتأثيراتها السلبية.
والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق المُنْتَظِر، وبغير ذلك فلا قيمة للانتظار الاتكالي المرتكز على السلبية والعزلة وجلد الذات.
فلسفة الغيبة
في كتابه (لماذا الغيبة)، يستعرض آية الله الفقيه الشهيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره)، منطلقات الحاجة للمنقذ والإيمان بحتمية وجوده وتأكيد دوره العظيم؛ لإيصال قارئه لخلاصة مهمة جداً تتلخص بعدم الفصل بين السياق العقائدي والإيماني لفكرة الغيبة وبين الهاجس الإنساني والطموح بوجود منقذ البشرية، كما يقدم إجابات مرتكزة على منطق علمي ومعرفي على التساؤلات الكثيرة عن أسباب هذه الغيبة التي يراها الفقيه السيد الشيرازي إختباراً إلهياً حقيقياً للإنسان بهدف بنائه على المستوى النفسي، وتحضيره ذهنياً وسلوكياً لظهور الإمام الغائب عليه السلام.
قدم الفقيه محمد رضا الشيرازي (قدس سره) لقارئه لغة تزاوج بين السهل الممتنع البعيد عن كل ما يرهق القارئ وبين عمق معرفي وعلمي يتكامل مع سهله الممتنع؛ ليضمن للقارئ عدم الدوار في دوامات الغموض لانتائج ملموسة لها، ويمكن أن نلمس هذا عبر تقسيمه كتابه لعناوين تناولها بعمق ومعاصرة نادرتين.
وبدراية العرفين، يؤشر الفقيه الشيرازي إلى حالة الخلط الغريبة في بعض المفاهيم المرتبطة بقضية الغيبة كالبطون والظهور والتجلي والاختفاء والغيبة والحضور التي قد تثير في الأذهان بعض الإشكاليات ومنها سؤال: هل ان الله تعالى قبل الآخرة غيب أم شهود؟
يجيب السيد محمد رضا الشيرازي عن هذا التساؤل بقوله: "إنَّ الله تعالى غيب وشهود في آن واحد فهو سبحانه غيب من جانب ويمتحن العباد بهذا الغيب، وهو حقاً امتحان مهم ، ومن جانب آخر شهود (عميت عين لاتراك)؛ لأنَّ الله تعالى متجل بقدرته في كل ورقة شجرة "1.
كما يستعرض عوامل نجاح الغيبة، ويؤكد أنها تهيء الأجواء العامة للنجاح من خلال النجاح بـ (منطق المعادلات الغيبية) وكذلك النجاح بـ (منطق المعادلات المادية)، ويعتبر ان نجاح المعادلات الغيبية بمنطقها هو مضمون الحركة فيقول: "إذا كان المؤمن حاكماً على الكرة الأرضية فهذا نجاح له، وإذا كان مبضعاً تحت سنابك الخيول فهذا نجاح له أيضاً ، مادام سائراً في خط الله، إذاً فلا يتطرق الفشل للحركة الإلهية بمنطق المعادلات الغيبية أبداً "2.
كما يشير إلى أهمية البعد المادي الملموس والظاهري حين يشرح وبعمق أبعاد نجاح منطق المعادلات المادية أو ما يسمى بـ (النجاح الظاهري)، بحيث يتكامل البعدان الغيبي والمادي لنجاح الحركة وهو ذاته التكامل بين العقيدة المهدوية عند المؤمنين والطموح الإنساني بظهور المصلح المنتظر.
التكامل الحضاري
وبين قيمة الانتظار والاعداد لظهور الإمام من جهة، والتأمل في فكرة الغيبة من جهة أخرى؛ نصل إلى حقيقة الارتباط وتجانس الفكرة المهدوية بوصفها سياقاً عقائدياً وبنفس الوقت تمثل أيقونة أساسية لتحقيق آمال وطموحات البشرية في الارتقاء والسمو إلى القيم الأخلاقية العليا، حيث ترسم أملاً لطمأنينة البشرية بعد كل مالاقته من ويلات ودمار.
أما الحديث عن الاتصال المباشر للفكرة بالدين؛ فيمكن القول أن الدين ــ بطبيعة الحال ــ وجد من أجل اطمئنان النفس، كان لابد أن تدعم الأديان هذه الفكرة وهذه المشاعر الإنسانية وتبشر باليوم الذي تملأ الأرض فيه قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، هذا الدعم الديني المهم سيمنح الشعور زخماً إيمانياً يجعل منه سلاحاً قوياً لمواجهة ما يعتري العالم الإنساني من مشاكل وصعوبات ، ويحول اليأس المعتم في النفس البشرية إلى ثيمة ضوئية تجدد الطموحات والآمال بالغد الواعد بكل ما هو جميل وعادل بعد أن يحسم الصراع الأزلي بين الخير والشر بانتصار الأول وهو انتصار حتمي يغذيه ويديمه الإيمان بفكرة اليوم المنتظر.
اضف تعليق