ولم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) على دعوة الناس إلى الأخلاق العملية فحسب، بل إنهم جسّدوا لهم خير صور عن الأخلاق العملية الفاضلة التي قل نظيرها في التأريخ. وقد شاهد الناس بأعينهم المصداق الأكمل لتطبيق الأخلاق على أرض الواقع، العالم بأسره أيقن بأن أهل البيت ليسوا مثل بعض...

من يراجع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) يجدها تؤكد بشكل بالغ على الأخلاق العملية وأن يكون الإنسان داعية للآخرين بأخلاقه العملية ومن ذلك: 

ما روي عن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع (1).

وعن أبي عبد الله عليه السلام، أنه أوصى بعض شيعته فقال لهم: كونوا لنا دعاة صامتين.

قالوا: وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟

قال: تعملون بما أمرناكم به من طاعة الله وتنتهون عما نهيناكم عنه ومعاصيه، فاذا رأى الناس ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فسارعوا إليه.

أشهد لقد سمعت أبي (عليه السلام) يقول: شيعتنا فيما مضى خير من كان، إن كان امام مسجد في الحي كان منهم، وإن كان مؤذن في القبيلة كان منهم، وان كان موضع وديعة وأمانة كان منهم، وإن كان عالم يقصد إليه الناس لدينهم ومصالح امورهم كان منهم، فكونوا أنتم كذلك، حببونا الى الناس، و لا تبغضونا إليهم (2).

ولم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) على دعوة الناس إلى الأخلاق العملية فحسب، بل إنهم جسّدوا لهم خير صور عن الأخلاق العملية الفاضلة التي قل نظيرها في التأريخ.

وقد شاهد الناس بأعينهم المصداق الأكمل لتطبيق الأخلاق على أرض الواقع وكانت نتيجة ذلك عدة أمور: 

الأمر الأول: أنّ العالم بأسره أيقن بأن أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا مثل بعض مدّعي الأخلاق ممّن لا يطابق قولهم عملهم ويشملهم ذمّ الباري تعالى بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُون) (3).‏

الأمر الثاني: كثير من الناس ممّن اهتدوا إلى الحق إنما اهتدوا بأخلاق أهل البيت (عليهم السلام) وليس كما يعتقد البعض أنهم آمنوا بسبب الإعجاز أو الخوارق العلمية.

الأمر الثالث: أن تأثير الأخلاق العملية أبلغ وأوقع في النفوس وخير شاهد على ذلك هو تأثر كثيرا من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) بأخلاقهم العملية بما في ذلك البعداء ممن أشربوا في قلوبهم بغضهم.

الأمر الرابع: وهو الأهم أن الغاية من بيان هذه الأخلاق العملية لأهل البيت (عليهم السلام) هو التأسّي بها والسير على نهجم النيّر وليس مجرد استعراض لحكايات وقصص وحسب.

صور من الأخلاق العملية لأهل البيت (عليهم السلام) 

هناك كثير من النماذج العملية لأخلاق أهل البيت (عليهم السلام) الصالحة التي جذبت الناس إليهم وجعلتهم يدخلون في دين الله أفواجا ومن ذلك: 

العفو عند المقدرة

بالرغم أنّ العفو حسن على إطلاقه إلا أن العفو عند القدرة على الرد أجمل وأحسن ولذا أكد عليه المعصومون (عليهم السلام) في أخبارهم ومن ذلك: 

قول الإمام الصادق (عليه السلام): العفو عند القدرة من سنن المرسلين (4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب‏، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟

قالوا: نظن خيراً ونقول خيرا أخ‏ كريم‏ وابن أخ‏ كريم، وقد قدرت، قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: لاتثريب‏ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين‏ (5).

ردّ الإساءة بالإحسان

ومن أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) العظيمة أنهم لا يقتصرون على الكف عن الإساءة إزاء المسيئين، بل إنهم يقابلونها بالإحسان.

 روى المبرد و ابن عائشة: أنّ شاميا رأى الإمام الحسن (عليه السلام) راكبا فجعل يلعنه وهو لا يرد، فلما فرغ أقبل الإمام الحسن عليه فسلّم عليه وضحك، وقال: أيها الشيخ أظنك غريبا و لعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت‏ جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعا رحبا وجاها عريضا ومالا كبيراً، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي والآن أنت أحب خلق الله إلي وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل و صار معتقدا لمحبتهم (6). 

کظم الغيظ

ومن أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) العملية التي جعلت الناس يقبلون عليهم ويحدقون بهم هو أنهم كانوا يكظمون غيظهم قبال من كانوا يسيئون إليهم ويعلمون بقوله تعالى: (وَ الْكاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنين) (7).‏

يقال: إنه وقف على علي بن الحسين (عليهما السلام) رجل من أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي‏ عليه‏.

فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول.

فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين‏، فعلمنا أنه لا يقول شيئا.

فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، فخرج إلينا متوثبا للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاء مكافئا له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام): يا أخي، إنك كنت وقعت علي آنفا وقلت، فإن كنت قد قلت ما في فإني استغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك، قال: فقبّل الرجل بين عينيه، فقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به (8).

اللين في الخُلق

كانت أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) كما وصف القرآن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (9).

وهذا ما جعل الناس يعتقدون بهم ويهتدون على أيديهم والشواهد على ذلك كثيرة منها ما نُقل أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي الإمام الكاظم (عليه السلام) ويسبّه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام فقال له بعض جلسائه يوما دعنا نقتل هذا الفاجر فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة فركب فوجده في مزرعة فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا توطئ زرعنا فتوطأه أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له كم غرمت في زرعك هذا فقال له مائة دينار.

قال: وكم‏ ترجو أن تصيب فيه؟

قال: لست أعلم الغيب.

قال: إنما قلت لك كم‏ ترجو أن يجيئك فيه؟

قال: أرجو فيه مائتي دينار.

فأخرج له الإمام الكاظم (عليه السلام) صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو.

فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه الإمام الكاظم (عليه السلام) وانصرف وراح إلى المسجد فوجد العمري جالسا، فلما نظر إليه، قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فوثب أصحابه إليه، فقالوا: ما قصّتك قد كنت تقول غير هذا؟

فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن وجعل يدعو للإمام الكاظم (عليه السلام) فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: أيما كان خيرا ما أردتم أو ما أردت؟

إنني أصلحت أمره‏ بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شرّه‏ (10).

يبقى القول: ما أحوجنا اليوم إلى هكذا أخلاق عملية نقتدي بها بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة الذين جذبوا العالم بأخلاقهم وقادوهم إلى طريق السلام.

............................................. 

(1) الأصول الستة عشر: 151.

(2) شرح الأخبار: 3/506 ح1452.

(3) سورة الصف: 2.

(4) مصباح الشريعة: 250.

(5) الکافي: 4/225 ح3.

(6) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 4/19.

(7) سورة آل عمران: 134.

(8) البرهان في تفسير القرآن: 1/689.

(9) سورة آل عمران: 159.

(10) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 2/234.

اضف تعليق