مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الألف والعادة، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره في قلبه عند موته، فإن كان أكثر ميله إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره عند الموت طاعة الله، وإن كان أكثر ميله إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه...

ان أعظم المخاوف خوف سوء الخاتمة، وله أسباب مختلفة ترجع إلى ثلاثة:

 (الأول) وهو الأعظم، وهو أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله، إما الجحود أو الشك فتقبض الروح في تلك الحالة، وتصير عقدة الجحود أو الشك حجابا بينه وبين الله تعالى، وذلك يقتضي البعد الدائم، والحرمان اللازم، وخسران الأبد، والعذاب المخلد.

(الثاني) ضعف الإيمان في الأصل، ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله وقوي حب الدنيا في القلب، واستولى عليه بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله إلا من حيث حديث النفس، فلا يظهر له أثر في مخالفة النفس والشيطان، فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات، حتى يظلم القلب ويسود، وتتراكم ظلمة الذنوب عليه، ولا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان حتى ينطفئ بالكلية، فإذا جاءت سكرة الموت ازداد حب الله ضعفا.

(والثالث) كثرة المعاصي وغلبة الشهوات، وإن قوى الإيمان. وبيان ذلك: أن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الألف والعادة، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره في قلبه عند موته، فإن كان أكثر ميله إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره عند الموت طاعة الله، وإن كان أكثر ميله إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عنده، وإن كان أكثر شغله السخرية والاستهزاء والمزاح وأمثال ذلك كان الغالب عند الموت ذلك، وهكذا الحال في جميع الأشغال والأعمال الغالبة في عمره، فإنها تغلب على قلبه عند موته، فربما يقبض روحه عند غلبة شهوة من شهوات الدنيا ومعصية من المعاصي، فيعتقد بها قلبه، ويصير محجوبا عن الله تعالى، وهو المراد بالختم على السوء.

 فالذي غلبت عليه المعاصي والشهوات، وكان قلبه أميل إليها منه إلى الطاعة، فهذا الخطر قريب في حقه، ولا يميل إليها أصلا، فهو بعيد منه جدا. ومن غلبت عليه الطاعات ولم يقارف المعاصي إلا نادرا، فلعل الراجح في حقه النجاة منه، وإن أمكن حصوله. ومن لم يغلب شيء من طاعاته ومعاصيه على الآخر فأمره في هذا الخطر إلى الله، ولا يمكن لنا الحكم بشيء من القرب والبعد في حقه. 

والسر في ذلك: أن الغشية المتقدمة على الموت شبيهة بالنوم، فكما إن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره وألفها، حتى أنه لا يرى في منامه إلا ما يماثل مشاهداته في اليقظة، وحتى أن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع، فكذلك حاله عند سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية، لكونه شبيها بالنوم وإن كان فوقه، فيقتضي ذلك تذكر المألوفات وعودها إلى القلب، فربما يكون غلبة الألف سببا لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل نفسه إليها وتقبض عليها روحه، ويكون ذلك سبب سوء خاتمته، وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له الخلاص منها بعناية الله وفضله. 

وكما إن ما يخطر بالبال في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص لا يعلمه بحقيقته أحد إلا الله، فكذلك ما يرى في آحاد المنامات وما يختلج في القلب عند سكرات الموت له أسباب عند الله لا نعرف بعضها، وربما تتمكن من معرفة بعضه، فإنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه، أما بالمشابهة، بأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر، وأما بالمضادة، بأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحا، وأما بالمقارنة، بأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان.

 وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء، ولا يدري وجه المناسبة له، وربما ينتقل إلى شيء لا يعرف سببه أصلا. وكذلك انتقالات الخواطر بالمنام وعند سكرات الموت لها أسباب لا نعرف بعضها ونعرف بعضها بالنحو المذكور. ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال إلى المعاصي والشهوات، فلا طريق له إلا المجاهدة طول عمره في فطام نفسه عنها، وفي قمع الشهوات عن قلبه، فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار، ويكون طول المجاهدة والمواظبة على العلم وتخلية السر عن الشواغل الدنيوية وتقييده بالتوجه إلى الله وحبه وأنسه عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت، إذ المرء يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه، كما ورد في الخبر. 

وقد دلت المشاهدة على أن كل أحد يكون عند موته مشغول القلب بما هو الغالب عليه طول عمره، حيث يظهر منه عنده ذلك، وإنما المخوف الموجب لسوء الخاتمة هو خاطر سوء يخطر، ومنه عظم خوف العارفين، إذ اختلاج الخواطر والاتفاقات المقتضية لكونها مذمومة أو ممدوحة لا يدخل تحت الاختيار دخولا كليا، وإن كان لطول الألف والعادة تأثير ومدخلية، ولذا إذا أراد الإنسان ألا يرى في المنام إلا الأنبياء والأئمة عليهم السلام وأحوال الصالحين والعبادات لم يتيسر له، وإن كانت كثرة الحب والمواظبة على الصلاح والطاعة مؤثرة فيه.

 وبالجملة: اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط، وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة. وبذلك يعلم أن أعمال العبد كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح، وإن السلامة مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة، ولذلك قال رسول لله (ص): إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة، فيختم له بما سبق به الكتاب ومعلوم إن فواق الناقة لا يتسع لأعمال توجب الشقاوة، بل هي الخواطر التي تضطرب وتخطر خطور البرق الخاطف. 

ومن هنا قيل (1): إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك، ولكني أعجب ممن نجا كيف نجا، وورد (2): إن الملائكة إذا صعدت بروح المؤمن، وقد مات على الخير والإسلام، تعجبت الملائكة منه، وقالوا: كيف نجا من دنيا فسد فيها خيارنا. ولذلك قيل (3): من وقعت سفينته في لجة البحر، وهجمت عليه الرياح العاصفة، واضطربت الأمواج، كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطرابا من السفينة، وأمواج الخواطر أعظم التطاما من أمواج البحر، ومقلب القلوب هو الله. 

ومن هنا يظهر سر قوله: الناس كلهم هلكى ألا العالمون، والعالمون، كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم (4). ولأجل هذا الخطر العظيم كانت الشهادة مطلوبة وموت الفجأة مكروها، إذ موت الفجأة ربما يتفق عند غلبة خاطر سوء واستيلائه على القلب. وأما الشهادة في سبيل الله فإنها عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب غير حب الله، وخرج حب الدنيا والمال والولد. فإن من هجم على صف القتال بأمر الله وأمر رسوله يكون موطنا نفسه على الموت لرضا الله وحبه، بائعا دنياه بآخرته، راضيا بالبيع الذي بايعه الله به في قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة 111. وبذلك يظهر أن القتل لا بسبب الشهادة التي حقيقتها ما فسر، لا يفيد الاطمئنان من هذا الخطر، وإن كان ظلما، وإن كان في الجهاد، إذا لم تكن هجرته فيه إلى الله ورسوله، بل إلى دنيا يصيبها أو امرأة يأخذها. 

وقد ظهر مما ذكر: أن سوء الخاتمة باختلاف أسبابه راجع إلى أحوال القلب، وحالة القلب إما خاطر خير أو خاطر سوء أو خاطر مباح، فمن زهق روحه على خاطر مباح لم يكن الحكم بأنه ختم على خير أو سوء، بل أمره إلى الله، وإن كانت النجاة له أقرب بعد غلبة صالحات أعماله على فاسداتها ومن زهق روحه على خاطر سوء وهو أحد الخواطر المتقدمة: (فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا) النساء 116، 119. ومن زهق روحه على خاطر خير وهو أن يكون قلبه في حالة الموت متوجها إلى الله ممتليا من حبه وأنسه فقد فاز فوزا عظيما. وهذا موقوف على المجاهدة في فطام النفس عن الشهوات الحيوانية، وإخراج حب الدنيا عنها رأسا. الاحتراز عن فعل المعاصي ومشاهداتها والتفكر فيها، وعن مجالسة أهلها واستماع حكاياتهم، بل عن مباحات الدنيا بالكلية، وتخلية السر عما سوى الله، والانقطاع بشراشره إليه، وإخراج محبة كل شيء سوى محبته عن قلبه، حتى يصير حبه سبحانه والأنس به ملكة راسخة، ليغلب على القلب عند سكرة الموت، وبدون ذلك لا يمكن القطع بذلك، كيف وقد علمت أن الغشية المتقدمة على الموت شبه النوم، وأنت في غالب الرؤيا الظاهرة عليك في المنام لا تجد في قلبك حبا لله وأنسا به وتوجها إليه، بل لا يخطر ببالك أن لك ربا متصفا بالصفات الكمالية، بل ترى ما كنت تألفه وتعتاده من الأمور الباطلة والخيالات الفاسدة، فإن زهق روحك عند اشتغال خاطرك بشيء من الأمور الدنيوية، ولم يكن متوجها إلى الله ومستحضرا معرفته ومبتهجا بحبه وأنسه، لبقيت على تلك الحالة أبدا، وهو الشقاوة العظمى والخيبة الكبرى. فتيقظ -يا حبيبي- من سنة الغفلة، وتنبه عن سكر الطبيعة، واخرج حب الدنيا عن قلبك، وتوجه بشراشرك إلى جناب ربك، واكتف من الدنيا بقدر ضرورتك ولا تطلب منها فوق حاجتك، واقنع من الطعام ما يقيم صلبك ولا تكثر التناول منه ليزيل من ربك قربك، وارض من اللباس بما يستر عورتك ولا يظهر للناس سوءتك، واكتف من المسكن بما يحول بينك وبين الأبصار ويدفع عنك حر الشمس ويرد الأمطار، فإن جاوزت عن ذلك تشعبت همومك وتكثرت غمومك، وأحاط بك الشغل الدائم والعناء اللازم، وذهب عنك جل خيراتك وضاعت بركات أوقاتك. 

وبعد ذلك راقب قلبك في جميع الأوقات، وإياك أن تهمله لحظة من اللحظات، واحفظه من أن يكون محلا لغير معرفة الله وحبه، وليكن القرب إلى الله والأنس به غاية همك، إذ العاقل إنما يميل ويشتاق إلى ما هو الأشرف والأكمل، ويسر ويرتاح بما له أحسن وأنفع، ولا ريب في أن أشرف الموجودات وأكملها هو سبحانه، بل هو الموجود الحقيقي والكمال الواقعي، وغيره من الموجودات والكمالات من لوازم فيضه ورشحات وجوده وفضله، وله غاية ما يتصور من العلو والكمال والبهاء والجلال، إن معرفته وحبه أحسن الأشياء وأنفعها لكل أحد، لأنه الباعث للسعادة الأبدية والبهجة الدائمية، فلا ينبغي للعاقل أن يترك ذلك اشتغالا بفضول الدنيا وخسائسها، بل يلزم عليها أن يترك حبلها على غاربها، ويخلص نفسه الشريفة عن مخالبها، ويتوجه بكليته إلى جناب ربه، ولم يكن فرحه وابتهاجه إلا بحبه وأنسه.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

..............................................

(1) القائل هو (مطرف بن عبد الله) كما في إحياء العلوم: ج 4 ص 155.

 (2) يظهر من كلمة (ورد) أن هذا حديث. وفي إحياء العلوم - ج 4 ص 155 - كلام ينقله عن (حامد اللفاف).

 (3) القائل هو (الغزالي) في إحياء العلوم، في الصفحة المتقدمة.

 (4) جاء نص هذا الكلام في أثناء كلام (الغزالي) في إحياء العلوم - ج 4 ص 156 - وكأنه من كلام نفسه. إلا أنه جاء نص هذه العبارة في (مجموعة الشيخ ورام) ص 320، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مرسلا. وكذلك جاء في (مصباح الشريعة) المنسوب إلى الصادق - عليه السلام - في الباب 77 ما يقرب من هذا النص. فماذا تظن أراد المؤلف بقوله: (سر قوله) هل أراد الغزالي يا ترى؟

اضف تعليق