المكر من المهلكات العظيمة، لأنه أظهر صفات الشيطان، والمتصف به أعظم جنوده، ومعصيته أشد من معصية إصابة المكروه إلى الغير في العلانية، إذ المطلع بإرادة الغير إيذاءه يحتاط ويحافظ نفسه عنه، فربما دفع أذيته، وأما الغافل فليس في مقام الاحتياط، لظنه أن هذا المكار المحيل...

وأعلم أن المكر، والحيلة، والخدعة، والنكر، والدهاء: ألفاظ مترادفة، وهي في اللغة قد تطلق على شدة الفطانة، وأرباب المعقول يطلقونها على استنباط بعض الأمور من المآخذ الخفية البعيدة على ما تجاوز عن مقتضى استقامة القريحة، ولذا جعلوها ضدا للذكاء وسرعة الفهم، والعرف خصصها باستنباط هذه الأمور إذا كانت موجبة لإصابة مكروه إلى الغير من حيث لا يعلم، وربما فسر بذلك في اللغة أيضا، وهذا المعنى هو المراد هنا.

 ولتركبه من إصابة المكروه إلى الغير ومن التلبيس عليه، يكون ضده استنباط الأمور المؤدية إلى الخيرية، والنصيحة لكل مسلم، واستواء العلانية للسريرية. 

ثم فرق المكر ومرادفاته عن التلبيس والغش والغدر وأمثالها، إما باعتبار خفاء المقدمات وبعدها فيها دونها. أو بتخصيص الأولى بنفس استنباط الأمور المذكورة والثانية بارتكابها، ولذا عدت الأولى من رذائل القوة الوهمية أو العاقلة للعذر المذكور، والثانية من رذائل الشهوية، وربما كان استعمالهما على الترادف، وأطلق كل منهما على ما تطلق عليه الأخرى. 

هذا وللمكر مراتب شتى ودرجات لا تحصى من حيث الظهور والخفاء، فربما لم يكن فيه كثير دقة وخفاء فيشعر به من له أدنى شعور، وربما كان في غاية الغموض والخفاء بحيث لم يتفطن به الأذكياء. 

ومن حيث الموارد والمواضع كالباعث لظهور المحبة والصداقة واطمئنان عاقل، ثم التهجم عليه بالإيذاء والمكروه، والباعث لظهور الأمانة والديانة وتسليم الناس أموالهم ونفائسهم إليه على سبيل الوديعة أو المتشاركة أو المعاملة، ثم أخذها وسرقها على نحو آخر من وجوه المكر.

 وكالباعث لظهور ورعه وعدالته واتخاذ الناس إياه إماما أو أميرا فيفسد عليهم باطنا دينهم ودنياهم. وقس على ذلك غيره من الموارد والمواضع. 

ثم المكر من المهلكات العظيمة، لأنه أظهر صفات الشيطان، والمتصف به أعظم جنوده، ومعصيته أشد من معصية إصابة المكروه إلى الغير في العلانية، إذ المطلع بإرادة الغير إيذاءه يحتاط ويحافظ نفسه عنه، فربما دفع أذيته، وأما الغافل فليس في مقام الاحتياط، لظنه أن هذا المكار المحيل محب وناصح له، فيصل إليه ضره وكيده في لباس الصدقة والمحبة. فمن أحضر طعاما مسموما عند الغير مريدا إهلاكه فهو أخبث نفسا وأشد معصية ممن شهر سيفه علانية مريدا قتله، إذ الثاني أظهر ما في بطنه وأعلم هذا الغير بإرادته، فيجزم بأنه عدو محارب له فيتعرض لصرف شره ومنع ضره، فربما تمكن من دفعه، وأما الأول فظاهره في مقام الإحسان وباطنه في مقام الإيذاء والعدوان، والغافل المسكين لا خبر له عن خباثة باطنه، فيقطع بأنه يحسن إليه، فلا يكون معه في مقام الدفع والاحتياط، بل في مقام المحبة والوداد، فيقتله وهو يعلم أنه يحسن إليه، ويهلكه وهو في مقام الخجل منه.

 وبالجملة: هذه الرذيلة أخبث الرذائل وأشدها معصية، ولذلك قال رسول الله (ص): (ليس منا من ماكر مسلما). وقال أمير المؤمنين (ع): (لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر الناس)، وكان عليه السلام كثيرا ما يتنفس الصعداء ويقول: (واويلاه يمكرون بي يعلمون أني بمكرهم عالم وأعرف منهم بوجوه المكر، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار فأصبر على مكرهم ولا ارتكب مثل ما ارتكبوا).

 وطريق علاجه -بعد اليقظة- أن يتأمل في سوء خاتمته ووخامة عاقبته، وفي تأديته إلى النار ومجاورة الشياطين والأشرار، ويتذكر أن وبال وشهدت به التجربة والاعتبار. ثم يتذكر فوائد ضد المكر ومحامده، أعني استنباط ما يوجب النصيحة والخيرية للمسلمين وموافقة ظاهره لباطنه في أفعاله وأقواله -كما يأتي في محله- وبعد ذلك لو كان عاقلا مشفقا على نفسه لاجتنب عنه كل الاجتناب، وينبغي أن يقدم التروي في كل فعل يصدر عنه لئلا يكون له فيه مكر وحيلة، وإذا عثر على فعل يتضمنه فليتركه معاتبا لنفسه، وإذا تكرر منه ذلك نزول عن نفسه أصول المكر وفروعه بالكلية بعون الله وتوفيقه.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

اضف تعليق