إسلاميات - اخلاق

علاج الوساوس

سد الأبواب العظيمة للشيطان في القلب، وهي الشهوة، والغضب، والحرص، والحسد، والعداوة، والعجب، والحقد، والكبر، والطمع، والبخل، والخفة، والجبن، وحب الحطام الدنيوي الدائم، والشوق إلى التزين بالثياب الفاخرة، والعجلة في الأمر، وخوف الفاقة والفقر، والتعصب لغير الحق، وسوء الظن بالخالق. وغير ذلك من رؤوس ذمائم الصفات...

الوساوس إن كانت بواعث الشرور والمعاصي، فالعلاج في دفعها أن يتذكر سوء عاقبة العصيان ووخامة خاتمته في الدنيا والآخرة، ويتذكر عظيم حق الله وجسيم ثوابه وعقابه، ويتذكر أن الصبر عما تدعو إليه هذه الوساوس أسهل من الصبر على نار لو قذفت شرارة منها إلى الأرض أحرقت نبتها وجمادها، فإذا تذكر هذه الأمور وعرف حقيقتها بنور المعرفة والإيمان، حبس عنه الشيطان وقطع عنه وسواسه، إذ لا يمكن أن ينكر عليه هذه الأمور الحقة، إذ يقينه الحاصل من قواطع البرهان يمنعه عن ذلك ويخيبه، بحيث يرجع هاربا خائبا. فإن التهاب نيران البراهين بمنزلة رجوم الشياطين، فإذا قوبلت بها وساوسهم فرت فرار الحمر من الأسد.

 وإن كانت مختلجة بالبال بلا إرادة واختيار، من دون أن تكون مبادئ الأفعال، فقطعها بالكلية في غاية الصعوبة والإشكال، وقد اعترف أطباء النفوس بأنها الداء العضال ويتعسر دفعه بالمرة، وربما قيل بتعذره ولكن الحق إمكانه، لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (من صلى ركعتين لم تتحدث نفسه فيها بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، ولولا إمكانه لم يتصور ذلك. 

والسر في صعوبة قطعها بالكلية أن للشيطان جندين: جندا يطير وجندا يسير، والواهمة جنده الطيار، والشهوة جنده السيار، لأن غالب ما خلقتا منه هي النار التي خلق منها الشيطان، فالمناسبة اقتضت تسلطه عليهما وتبعيتهما له. ثم لما كانت النار بذاتها مقتضية للحركة، إذ لا تتصور نار مشتعلة لا تتحرك، بل لا تزال تتحرك بطبعها، فشأن كل من الشيطان والقوتين أن يتحرك ولا يسكن، إلا أن الشيطان لما خلق من النار الصرفة من دون امتزاج شيء آخر بها فهو دائم الحركة والتحريك للقوتين بالوسوسة والهيجان، والقوتان لما امتزج بغالب مادتهما -أعني النار- شيء من الطين لم تكونا بمثابة ما خلق من صرف النار في الحركة، إلا أنهما استعدتا لقبول الحركة منه، فلا يزال الشيطان ينفخ فيهما ويحركهما بالوسوسة والهيجان ويطير ويجول فيهما. ثم الشهوة لكون النارية فيها أقل فسكونها ممكن، فيحتمل أن يكف تسلط الشيطان عن الإنسان فيها، فيسكن بالكلية عن الهيجان. 

وأما الواهمة فلا يمكن أن يقطع تسلطه عنها، فيمتنع قطع وسواسه عن الإنسان، إذ لو أمكن قطعه أيضا بالمرة، لصار اللعين منقادا للانسان مسخرا له، وانقياده له هو سجوده له، إذ روح السجود وحقيقته هو الانقياد والاطاعة، ووضع الجبهة حالته وعلامته، وكيف يتصور أن يسجد الملعون لأولاد آدم (ع) مع عدم سجوده لأبيهم واستكباره من أن يطمئن عن حركته ساجدا له معللا بقوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف 12. فلا يمكن أن يتواضع لهم بالكف عن الوسوسة، بل هو من المنظرين لإغوائهم إلى يوم الدين، فلا يتخلص منه أحد إلا من أصبح وهمومه هم واحد، فيكون قلبه مشتغلا بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالا فيه، ومثله من المخلصين الداخلين في الاستثناء (1) عن سلطنة هذا اللعين، فلا تظنن أنه يخلو عنه قلب فارغ، بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح، فإنك إن أردت أن تخلي القدح عن الهواء من غير أن تشغله بمثل الماء فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يدخل فيه الماء يخلو عن الهواء، فكذلك القلب إذا كان مشغولا بفكر مهم في الدين يمكن أن يخلو من جولان هذا اللعين، وأما لو غفل عن الله ولو في لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، كما قال سبحانه: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) الزخرف 35. 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن الله يبغض الشاب الفارغ)، لأن الشاب إذا تعطل عن عمل مباح يشغل باطنه لا بد أن يدخل في قلبه الشيطان ويعيش فيه ويبيض يفرخ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد الحيوانات، لأن الشيطان طبعه من النار، والشهوة في نفس الشاب كالحلفاء (2) اليابسة، فإذا وجدها كثر تولده وتولدت النار من النار ولم تنقطع أصلا. 

فظهر أن وسواس الخناس لا يزال يجاذب قلب كل إنسان من جانب إلى جانب، ولا علاج له إلا قطع العلائق كلها ظاهرا وباطنا، والفرار عن الأهل والمال والولد والجاه والرفقاء، ثم الاعتزال إلى زاوية، وجعل الهموم هما واحدا هو الله. وهذا أيضا غير كاف ما لم يكن له مجال في الفكر وسير في الباطن في ملكوت السماوات والأرض وعجائب صنع الله، فإن استيلاء ذلك على القلب واشتغاله به يدفع مجاذبة الشيطان ووسواسه، وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من الصلوات والأذكار والأدعية والقراءة. 

ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، إذ الأوراد الظاهرة لا تستغرق القلب، بل التفكير بالباطن هو الذي يستغرقه، وإذا فعل كل ذلك لم يسلم له من الأوقات إلا بعضها، إذ لا يخلو في بعضها عن حوادث تتجدد وتشغله عن الفكر والذكر، كمرض أو خوف أو إيذاء وطغيان، ولو من مخالطة بعض لا يستغنى عنه في الاستعانة في بعض أسباب المعيشة.

ما يتم به علاج الوسواس

 لو أمكن العلاج في القطع الكلي للوساوس فإنما يتم بأمور ثلاثة:

 (الأول) سد الأبواب العظيمة للشيطان في القلب، وهي الشهوة، والغضب، والحرص، والحسد، والعداوة، والعجب، والحقد، والكبر، والطمع، والبخل، والخفة، والجبن، وحب الحطام الدنيوي الدائم، والشوق إلى التزين بالثياب الفاخرة، والعجلة في الأمر، وخوف الفاقة والفقر، والتعصب لغير الحق، وسوء الظن بالخالق... وغير ذلك من رؤوس ذمائم الصفات ورذائل الملكات، فإنها أبواب عظيمة للشيطان، فإذا وجد بعضها مفتوحا يدخل منه في القلب بالوساوس المتعلقة به، وإذا سدت لم يكن له إليه سبيل إلا على طريق الاختلاس والاجتياز.

 (الثاني) عمارة القلب بأضدادها من فضائل الأخلاق وشرائف الأوصاف، والملازمة للورع والتقوى، والمواظبة على عبادة ربه الأعلى.

 (الثالث) كثرة الذكر بالقلب واللسان. فإذا قلعت عن القلب أصول ذمائم الصفات المذكورة التي هي بمنزلة الأبواب العظيمة للشيطان، زالت عنه وجوه سلطنته وتصرفاته، سوى خطراته واجتيازاته، والذكر يمنعها ويقطع تسلطه وتصرفه بالكلية، ولو لم يسد أبوابه أو لا لم ينفع مجرد الذكر اللساني في إزالتها، إذ حقيقة الذكر لا يتمكن في القلب إلا بعد تخليته عن الرذائل وتحليته بالفضائل، ولولاهما لم يظهر على القلب سلطانه، بل كان بمجرد قولك: إخسأ، وإن كان عندك شيء منها لم يندفع عنك بمجرد مثل كلب جائع، ومثل هذه الصفات المذمومة مثل لحم أو خبز أو غيرهما من مشتهيات الكلب، ومثل الذكر مثل قولك له: إخسأ. ولا ريب في أن الكلب إذا قرب إليك ولم يكن عندك شيء من مشتهياته فهو ينزجر عنك بمجرد قولك: إخسا، وإن كان عندك شيء منها لم يندفع عنك بمجرد هذا القول ما لم يصل إلى مطلوبه.

 فالقلب الخالي عن قوت الشيطان يندفع عنه بمجرد الذكر، وأما القلب المملو منه فيدفع الذكر إلى حواشيه، ولا يستقر في سويدائه، لاستقرار الشيطان فيه. وأيضا الذكر بمنزلة الغذاء المقوي فكما لا تنفع الأغذية المقوية، ما لم ينق البدن عن الأخلاط الفاسدة ومواد الأمراض الحادثة، كذلك لا ينفع الذكر ما لم يطهر القلب عن الأخلاق الذميمة التي هي مورد مرض الوساوس، فالذكر إنما ينفع للقلب إذا كان مطهرا عن شوائب الهوى ومنورا بأنوار الورع والتقوى، كما قال سبحانه: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) الأعراف 201. وقال سبحانه: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ق آ 36. 

ولو كان مجرد الذكر مطردا للشيطان لكان كل أحد حاضر القلب في الصلاة، ولم يخطر بباله فيها الوساوس الباطلة والهواجس الفاسدة، إذ منتهى كل ذكر وعبادة إنما هو في الصلاة. مع أن من راقب قلبه يجد أن خطور الخواطر في صلاته أكثر من سائر الأوقات، وربما لا يتذكر ما نسيه من فضول الدنيا إلا في صلاته، بل يزدحم عندها جنود الشياطين على قلبه ويصير مضمارا لجولاتهم، ويقلبونه شمالا ويمينا بحيث لا يجد فيه إيمانا ولا يقينا، ويجاذبونه إلى الأسواق وحساب المعاملين وجواب المعاندين، ويمرون به في أودية الدنيا ومهالكها. 

ومع ذلك كله لا تظنن أن الذكر لا ينفع في القلوب الغافلة أصلا، فإن الأمر ليس كذلك، إذ للذكر عند أهله أربع مراتب كلها تنفع الذاكرين، إلا أن لبه وروحه والغرض الأصلي من ذلك المرتبة الأخيرة: (الأولى) اللساني فقط. (الثانية) اللساني والقلبي، مع عدم تمكنه من القلب، بحيث احتاج القلب إلى مراقبته حتى يحضر مع الذكر، ولو خلي وطبعه استرسل في أودية الخواطر. (الثالثة) القلبي الذي تمكن من القلب واستولى عليه، بحيث لم يمكن صرفه عنه بسهولة، بل احتاج ذلك إلى سعي وتكلف، كما احتيج في الثانية إليهما في قراره معه ودوامه عليه. (الرابعة) القلبي الذي يتمكن المذكور من القلب بحيث انمحى عند الذكر، فلا يلتفت القلب إلى نفسه ولا الذكر، بل يستغرق بشراشره في المذكور، وأهل هذه المرتبة يجعلون الالتفات إلى الذكر حجابا شاغلا. وهذه المرتبة هي المطلوبة بالذات. والبواقي مع اختلاف مراتبها مطلوبة بالعرض، لكونها طرقا إلى ما هو المطلوب بالذات.

ما يتوقف عليه قطع الوساوس 

السر في توقف قطع الوساوس بالكلية على التصفية والتخلية أولا، ثم المواظبة على ذكر الله: إن بعد حصول هذه الأمور للنفس تحصل لقوتها العاقلة ملكة الاستيلاء والاستعلاء على القوى الشهوية والغضبية والوهمية، فلا تتأثر عنها وتؤثر فيها على وفق المصلحة، فتتمكن من ضبط الواهمة والمتخيلة بحيث لو أرادت صرفهما عن الوساوس لأمكنها ذلك، ولم تتمكن القوتان من الذهاب في أودية الخواطر بدون رأيها، وإذا حصلت للنفس هذه الملكة وتوجهت إلى ضبطهما كلما أرادتا الخروج عن الانقياد والذهاب في أودية الوساوس وتكرر منها هذا الضبط، حصل لهما ثبات الانقياد بحيث لم يحدث فيهما خاطر سوء مطلقا، بل لم يخطر فيها إلا خواطر الخير من خزائن الغيب وحينئذ تستقر النفس على مقام الاطمئنان، وتنسد عنها أبواب الشيطان وتنفتح فيها أبواب الملائكة، ويصير مستقرها ومستودعها، فتستضاء بشروق الأنوار القدسية من مشكاة الربوبية، ويشملها خطاب: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) الفجر 27-28. 

ومثل هذه النفس أحسن النفوس وأشرفها، وتقابلها النفس المنكوسة المملؤة من الخبائث الملوثة بأنواع الذمائم والرذائل، وهي التي انفتحت فيها أبواب الشيطان وانسدت منها أبواب الملائكة، ويتصاعد منها دخان مظلم إليها، فتملأ جوانبها ويطفئ نور اليقين ويضعف سلطان الإيمان، حتى تخمد أنواره بالكلية، ولا يخطر فيها خاطر خير أبدا، وتكون دائما محل الوساوس الشيطانية، ومثلها لا يرجع إلى الخير أبدا، وعلامتها عدم تأثرها من النصائح والمواعظ، ولو اسمعت الحق عميت عن الفهم وصمت عن السمع، وإلى مثلها أشير بقوله سبحانه: (أرأيت من اتخذا إلهه هواه أفانت تكون عليه وكيلا) الفرقان، 43.

وبقوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) البقرة 7. وبقوله سبحانه: (إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) الفرقان 44. وبقوله تعالى: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يس 10. وبقوله عز وجل: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) يس 7.

 وبين هاتين النفسين نفس متوسطة في السعادة والشقاوة، ولها مراتب مختلفة في اتصافها بالفضائل والرذائل بحسب الكم والكيف والزمان، فيختلف فيها فتح أبواب الملائكة والشياطين بالجهات المذكورة، فتارة يبتدئ فيها خاطر الهوى فيدعوها إلى الشر، وتارة يبتدئ فيها خاطر الإيمان فيبعثها على الخير، ومثلها معركة تطارد جندي الشياطين والملائكة وتجاذبهما، فتارة يصول الملك على الشيطان فيطرده، وتارة يحمل الشيطان على الملك فيغلبه، ولا تزال متجاذبة بين الحزبين مترددة بين الجندين، إلى أن تصل إلى ما خلقت لأجله لسابق القضاء والقدر. ثم النفس الأولى في غاية الندرة، وهي نفوس الكمل من المؤمنين الموحدين، والثانية في نهاية الكثرة وهي نفوس الكفار بأسرهم، والثالثة نفوس أكثر المسلمين، ولها مراتب شتى ودرجات لا تحصى ولها عرض عريض، فيتصل أحد طرفيه بالنفس الأولى، وآخرهما بالثانية.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

.....................................

(1) إشارة إلى قوله تعالى: (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) الحجر 40.

(2) الحلفاء: ثبت أطرافه محددة كأنها سعف النخل والخوض، ينبت في مغايض المياه. الواحدة (حلفة وحلفاء).

اضف تعليق