أن يجتنب المتعلم عن اتباع الشهوات والهوى والاختلاط بأبناء الدنيا. أن يكون تعلمه لمجرد التقرب إلى الله والفوز بالسعادات الأخروية، ولم يكن باعثه شيئا من المراء والمجادلة، والمباهاة والمفاخرة، والوصول إلى جاه ومال، أو التفوق على الأقران. أن يعمل بما يفهم ويعلم، فإن من عمل بما يعلم ورثه الله...
لكل من التعلم والتعليم آداب وشروط: (أما آداب التعلم):
(فمنها) أن يجتنب المتعلم عن اتباع الشهوات والهوى والاختلاط بأبناء الدنيا. ولقد قال بعض الأكابر: كما أن الحاسة الجليدية إذا كانت مؤوفة برمد ونحوه فهي محرومة من الأشعة الفائضة عن الشمس، كذلك البصيرة إذا كانت مؤوفة بمتابعة الشهوات والهوى والمخالطة بأبناء الدنيا فهي محرومة من إدراك الأنوار القدسية ومحجوبة عن ذوق اللذات الإنسية.
(ومنها) أن يكون تعلمه لمجرد التقرب إلى الله والفوز بالسعادات الأخروية، ولم يكن باعثه شيئا من المراء والمجادلة، والمباهاة والمفاخرة، والوصول إلى جاه ومال، أو التفوق على الأقران والأمثال. قال الباقر عليه السلام: من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها.
وقال الصادق (ع): (طلبة العلم ثلاثة، فأعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل (1) والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل. فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار، متعرض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، وقد تسر بل بالخشوع وتخلى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه. وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق، يستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع للأغنياء من دونه، فهو لحلوانهم (2) هاضم ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره. وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقيلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق أخوانه، فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه).
(ومنها) أن يعمل بما يفهم ويعلم، فإن من عمل بما يعلم ورثه الله ما لم يعلم. وقال الصادق (ع): العلم مقرون إلى العمل، من علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه. وعن السجاد (ع): مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعملون ولما تعملوا بما علمتم، فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا ولم يزدده من الله إلا بعدا. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أخذ العلم من أهله وعمل بعلمه نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظه. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا تاج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وأن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الجنة، وأدخل الداعي النار بترك عمله (بتركه علمه) واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة.
(ومنها) أن يحافظ شرائط الخضوع والأدب للمعلم، ولا يرد عليه شيئا بالمواجهة، ويكون محبا له بقلبه، ولا ينسى حقوقه، لأنه والده المعنوي الروحاني، وهو أعظم الآباء الثلاثة. قال الصادق (ع): أطلبوا العلم وتزينوا معه بالحلم والوقار، وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم.
هذا وقد أشرنا سابقا إلى أن اللازم لكل متعلم أن يطهر نفسه أولا من رذائل الأخلاق وذمائم الأوصاف بأسرها، إذ ما لم يجرد لوح نفسه عن النقوش الردية لم تشرق عليه لمعات أنوار العلم والحكمة من ألواح العقول الفعالة القدسية.
(فمنها) أن يخلص المعلم تعليمه لله سبحانه ولم يكن له فيه باعث دنيوي من طمع مالي أو جاه ورئاسة أو شهرة بين الناس، بل يكون الباعث مجرد التقرب إلى الله تعالى والوصول إلى المثوبات الأبدية، فإن من علم غيره علما كان شريكا في ثواب تعليم هذا الغير لآخر، وفي ثواب تعليم هذا الآخر لغيره... وهكذا إلى غير النهاية، فيصل بتعليم واحد إلى مثوبات التعاليم الغير المتناهية، وكفى بهذا له فضلا وشرفا.
(ومنها) أن يكون مشفقا على المتعلم ناصحا له، مقتصرا في الإفادة على قدر فهمه، متكلما معه باللين والهشاشة لا بالغلظة والفظاظة.
(ومنها) أن لا يضمن العلم من أهله ويمنعه عن غير أهله، لأن بذل الحكمة للجهال ظلم عليها، ومنعها عن أهلها ظلم عليهم، كما ورد في الخبر (3).
(ومنها) أن يقول ما يعلم ويسكت عما لا يعلم حتى يرجع إليه ويعلمه، ولا يخبر المتعلمين ببيان خلاف الواقع. وهذا الشرط لا يختص بالمعلمين، بل يعم كل من تصدر عنه المسائل العلمية كالمفتي والقاضي وأمثالهما. وقال الباقر (ع): حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عنه ما لا يعلمون (4) وقال الصادق (ع): إن الله تعالى خص عباده بآيتين من كتابه: ألا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا، فقال: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) الأعراف 169. وقال: (بل كذبوا بما لم يحيطوا يعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس 39. وعنه (ع): إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم، فليقل: لا أدري، ولا يقل: الله أعلم، فيوقع في قلب صاحبه شكا. وإذا قال المسؤول: لا أدري، فلا يتهمه السائل.
وعنه (ع): إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك. إياك أن تفتى الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم. وعن الباقر (ع): من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه. وربما كان لكل من المتعلم والمعلم آداب أخر تظهر لمن وقف على فن الأخلاق.
ثم العارف بأهل زماننا يعلم أن آداب التعلم والتعليم كسائر الآداب والفضائل فيهم مهجورة، والأمر في مثل الزمان كما قال في وصفه بعض أهل العرفان: قد فسد الزمان وأهله، وتصدى للتدريس من قل علمه وكثر جهله، فانحطت مرتبة العلم وأصحابه، واندرست مراسمه بين طلابه.
اضف تعليق