بإزاء كل فضيلة رذائل غير متناهية، لأن الوسط محدود معين، والأطراف غير محدودة، وتكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة التي هي نهاية الرذائل، ويكون كل منها أقرب منها إلى النهاية ومجرد الانحراف عن الفضيلة من أي طرف اتفق يوجب الوقوع في رذيلة. والثبات على الفضيلة والاستقامة في...
إعلم أن كل واحد من العقل العملي والعقل النظري رئيس مطلق من وجه أما "الأول" فمن حيث أن استعمال جميع القوى حتى العاقلة على النحو الأصلح موكول إليه، وأما "الثاني" فمن حيث أن السعادة القصوى وغاية الغايات أعني التحلي بحقائق الموجودات مستندة إليه، وأيضا إدراك ما هو الخير والصلاح من شأنه فهو المرشد والدليل للعقل العملي في تصرفاته.
وقيل: إن إدراك فضائل الأعمال ورذائلها من شأن العقل العملي، كما صرح به الشيخ في الشفاء بقوله: "إن كمال العقل العملي استنباط الآراء الكلية في الفضائل والرذائل من الأعمال على وجه الابتناء على المشهورات المطابقة في الواقع للبرهان، وتحقيق ذلك البرهان متعلق بكمال القوة النظرية".
والحق أن مطلق الإدراك والإرشاد إنما هو من العقل النظري فهو بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفذ الممضي لإشاراته وما ينفذ فيه الإشارة فهو قوة الغضب والشهوة.
دفع الإشكال في تقسيم الحكمة
إن قيل: إن القوم قسموا الحكمة أولا إلى النظرية والعملية، ثم قسموا العملية إلى ثلاثة أقسام: واحد منها علم الأخلاق المشتمل على الفضائل الأربع التي إحداها الحكمة، فيلزم أن تكون الحكمة قسما من نفسها.
قلنا: الحكمة التي هي المقسم هو العلم بأعيان الموجودات، سواء كانت لموجودات إلهية أي واقعة بقدرة الباري سبحانه، أو موجودات إنسانية أي واقعة بقدرتنا واختيارنا، ولما كان هذا العلم أعني الحكمة التي هي المقسم قسما من الموجودات بالمعنى الثاني، فلا بأس بالبحث عنه في علم الأخلاق، فإن غاية ما يلزم أن تكون الحكمة موضوعا لمسألة هي جزؤها بأن يجعل عنوانا فيها ويحمل عليها كونها ملكة محمودة، أو طريق اكتسابها كذا.
وبالجملة لا مانع من أن يجعل علم يبحث فيه عن أحوال الموجودات موضوعا لمسألة، ويبحث عنه فيه بإثبات صفة له لأجل أنه أيضا من الموجودات كما إنه في العلم الأعلى الذي يبحث فيه عن الموجودات من حيث وجودها، يبحث عن نفس العلم لكونه من الموجودات، ويجعل موضوعا لمسألة من مسائله، ولا يلزم من هذا كون الشيء جزءا لنفسه. وأيضا نقول كما أن الحكمة العملية قسم من مطلق الحكمة لتعلق العمل بالنظر، فكذا المطلق قسم منها لتعلق النظر بالعمل، وحينئذ كما أن العدالة من الحكمة باعتبار فكذا الحكمة من العدالة باعتبار آخر، فتختلف الحيثية ولا يلزم محذور.
وقيل: في الجواب أن المراد من الحكمة التي هي إحدى الفضائل الأربع استعمال العقل على الوجه الأصلح، وحينئذ فلا يرد إشكال أصلا لعدم كون الحكمة بهذا المعنى عين المقسم لأنها جزء له. وفيه أن الحكمة بهذا المعنى هي العدالة على ما تقرر، مع أن العدالة أيضا إحدى الفضائل الأربع.
"تنبيه"
قد صرح علماء الأخلاق بأن صاحب الفضائل الأربع لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلها إلى الغير، ولذا لا يسمى صاحب ملكة السخاء بدون البذل سخيا بل منفاقا، ولا صاحب ملكة الشجاعة بدون ظهور آثارها شجاعا بل غيورا، ولا صاحب ملكة الحكمة بدونها حكيما بل مستبصرا.
والظاهر أن المراد باستحقاق المدح هو حكم العقل بوجوب المدح، فإن من تعدى أثره يرجى نفعه، ويخاف ضره، فيحكم العقل بلزوم مدحه جلبا للنفع، أو دفعا للضرر، وأما من لا يرجى خيره وشره فلا يحكم العقل بوجوب مدحه وإن بلغ في الكمال ما بلغ.
تحقيق الوسط والأطراف
لا ريب في أنه بإزاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها، ولما عرفت أن أجناس الفضائل أربعة فأجناس الرذائل أيضا في بادئ النظر أربعة: الجهل، وهو ضد الحكمة، والجبن، وهو ضد الشجاعة، والشره وهو ضد العفة، والجور، وهو ضد العدالة. وعند التحقيق يظهر أن لكل فضيلة حدا معينا، والتجاوز عنه بالإفراط أو التفريط يؤدي إلى الرذيلة، فالفضائل بمنزلة الأوساط، والرذائل بمثابة الأطراف، والوسط واحد معين لا يقبل التعدد، والأطراف غير متناهية عددا. فالفضيلة بمثابة مركز الدائرة، والرذائل بمثابة سائر النقاط المفروضة من المركز إلى المحيط، فإن المركز نقطة معينة، مع كونه أبعد النقاط من المحيط، وسائر النقاط المفروضة من جوانبه غير متناهية، مع أن كلا منها أقرب منه من طرف إليه.
فعلى هذا يكون بإزاء كل فضيلة رذائل غير متناهية، لأن الوسط محدود معين، والأطراف غير محدودة، وتكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة التي هي نهاية الرذائل، ويكون كل منها أقرب منها إلى النهاية (1)، ومجرد الانحراف عن الفضيلة من أي طرف اتفق يوجب الوقوع في رذيلة. والثبات على الفضيلة والاستقامة في سلوك طريقها بمنزلة الحركة على الخط المستقيم وارتكاب الرذيلة كالانحراف عنه، ولا ريب في أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط الواصلة بين النقطتين، وهو لا يكون إلا واحدا، وأما الخطوط المنحنية بينهما فغير متناهية، فالاستقامة في طريق الفضيلة وملازمتها على نهج واحد، والانحراف عنه تكون له مناهج غير متناهية، ولذلك غلبت دواعي الشر على بواعث الخير.
ويظهر مما ذكر أن وجدان الوسط الحقيقي صعب، والثبات عليه بعد الوجدان أصعب. لأن الاستقامة على جادة الاعتدال في غاية الإشكال، وهذا معنى قول الحكماء "إصابة نقطة الهدف أعسر من العدول عنها، ولزوم الصوب (2) بعد ذلك حتى لا يخطيها أسر" ولذلك لما أمر فخر الرسل بالاستقامة في قوله تعالى: "فاستقم كما أمرت" هود 112.
قال شيبتني سورة هود عليه السلام، إذ وجد أن الوسط الحقيقي فيما بين الأطراف غير المتناهية المتقابلة مشكل، والثبات عليه بعد الوجدان أشكل.
وقال (المحقق الطوسي) وجماعة: "إن ما ورد في إشارات النواميس من أن الصراط المستقيم أدق من الشعر، وأحد من السيف إشارة إلى هذا المعنى " وغير خفي بأن هذا التأويل جرأة على الشريعة القويمة، وهتك لأستار السنة الكريمة. والواجب الإذعان بظاهر ما ورد من أمور الآخرة. نعم يمكن أن يقال كما مر: إن الأمور الأخروية التي حصل بها الوعد والوعيد كلها أمور محققة ثابتة على ما أخبر به، إلا أنها صور للأخلاق، والصفات المكتسبة في هذه النشأة قد ظهرت بتلك الصور في دار العقبى بحسب المرتبة، إذ ظهورات الأشياء مختلفة بحسب اختلاف المراتب والنشآت، فمواد ما يؤذي ويريح من الصور في موطن المعاد إنما هو الأخلاق والنيات المكتسبة في هذه النشأة.
وهذا المذهب مما استقر عليه آراء أساطين الحكمة والعرفان، وذكرنا الظواهر الدالة عليه من الآيات والأخبار، وأشرنا إلى حقيقة الحال فيه. وعلى هذا فالصراط المستقيم الممدود كالجسر على الجحيم صورة لتوسط الأخلاق، والجحيم صورة لأطرافها، فمن ثبت قدمه على الوسط هنا لم يزل عن الصراط هناك ووصل إلى الجنة التي وعدها الله المتقين، ومن مال إلى الأطراف هنا سقط هناك في جهنم التي أحاطت بالكافرين.
ثم الوسط إما حقيقي وهو ما تكون نسبته إلى الطرفين على السواء كالأربعة بالنسبة إلى الاثنين والستة، وهذا كالمعتدل الحقيقي الذي أنكر الأطباء وجوده، أو إضافي وهو أقرب ما يمكن تحققه للنوع أو الشخص إلى الحقيقي، ويتحقق به كمالهما "اللائق بحالهما" وإن لم يصل إليه، فالتسمية بالوسط إنما هو بالنسبة إلى الأطراف التي هي أبعد من الحقيقي بالإضافة إليه. وهذا كالاعتدالات النوعية والشخصية التي أثبتها الأطباء، فإن المراد منها الاعتدالات التي يمكن تحققها للأنواع والأشخاص، وهو القدر الذي يليق بكل نوع أو شخص أن يكون عليه، وإن لم يكن اعتدالا حقيقيا بمعنى تساوي الأجزاء البسيطة العنصرية وتكافؤها في القوة والأقربية إلى الحقيقي بالنسبة إلى سائر الأطراف سمي إضافيا.
ثم الوسط المعتبر هنا هو الإضافي لتعذر وجدان الحقيقي والثبات عليه، ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فربما كانت مرتبة من الوسط الإضافي فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو وقت، ورذيلة بالنسبة إلى غيره.
وتوضيح الكلام أنه لا ريب في أن الوسط الحقيقي في الأخلاق لكونه في حكم نقطة غير منقسمة لا يمكن وجدانه ولا الثبات عليه، ولذا ترى من هو متصف بفضيلة من الفضائل لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة هي الوسط الحقيقي، إلا أنه لما كانت تلك الفضيلة قريبة إليه ولا يمكن وجود الأقرب منها إليه له، يحكم بكونها وسطا إضافيا لأقربيتها إليه بالنسبة إلى سائر المراتب فالاعتدال الإضافي له عرض، وسطه الاعتدال الحقيقي، وطرفاه طرفا الإفراط والتفريط، إلا أنه ما لم يخرج عن هذين الطرفين يكون اعتدالا إضافيا، وكلما كان أقرب إلى الحقيقي كان أكمل وأقوى، وإذا خرج عنهما دخل في الرذيلة.
اضف تعليق