هو رجل يكاد يكون المتفرد الأوحد في قضية الإجماع على إنسانيته لدرجة أن كل متبني الفكر القديم والمعاصر، مسلمين أو من ديانات أخرى، أو حتى من غير المتدينين يشيرون إليه ببنان الإعجاب والاحترام. نتحدث عن علي بن أبي طالب، الفتى الهاشمي الذي بدأ التفرد منذ ولدته أمه في أقدس الأماكن على الإطلاق...
هو رجل يكاد يكون المتفرد الأوحد في قضية الإجماع على إنسانيته لدرجة أن كل متبني الفكر القديم والمعاصر، مسلمين أو من ديانات أخرى، أو حتى من غير المتدينين يشيرون إليه ببنان الإعجاب والاحترام. نتحدث عن علي بن أبي طالب، الفتى الهاشمي الذي بدأ التفرد منذ ولدته أمه في أقدس الأماكن على الإطلاق، مروراً بموقفه اللافت صبياً حين نام بفراش الرجل الذي أرهق قريشاً وطاغوتها وهيمنتها بدينه وكلمات قرآنه، وصولاً لسيفه الذي ضرب أعناق الصناديد في سبيل الدفاع عن قضيته التي آمن بها بعد أن تربى بحجر أستاذه المبعوث رحمة للعالمين، ومتمماً لمكارم الأخلاق.
والحديث عن ذكرى شهادته عليه السلام ربما يأخذ طابعاً سردياً يتناول السيرة العطرة لهذا الرجل الذي يحق لنا أن نطلق عليه لقب (أستاذ عولمة الأخلاق) عن جدارة واستحقاق، لكننا هنا نحاول أن نرصد شيئاً لافتاً في هذه المناسبة التي تبدو حزينة برمزيتها العاطفية والوجدانية، غير أنها تبدو مبعثاً للتفاؤل من جهة أخرى حيث تشير إلى انقداح الوعي لدى كثيرين غابت عنهم المعادلة الوسطية الرائعة لشخصية هذا الإمام والتي استطاع بها هدم أي فاصلة بين الإنسان والإيمان، وهي الفاصلة التي اشتغل ويشتغل عليها كثيرون من أصحاب المشاريع المتهافتة والتي لم تدم سوى عقود فقط حتى وصلت إلى اللاجدوى، بينما نرى حقيقة الوسطية التي جسدها كاملة الإمام علي (عليه السلام) من خلال ذوبانه الكامل بالرسالة المحمدية العظيمة؛ هي التي تتألق ويعلو شأنها إنسانياً وحضارياً وأخلاقياً.
كثيرون اليوم، وصلوا لقناعة أن دراسة هذه الشخصية العظيمة؛ تستلزم عدم الفصل بينه وبين ماآمن به من معتقدات مضيئة، لم تكن مخالفتها إلا ضربٌ من العبث، والسباحة في الفراغ العقلي والروحي. فالمتشبثون بقضية صراع الطبقات والانحياز إلى الطبقة الفقيرة عادوا ليعترفوا أنهم ليسوا الأوائل في هذا المضمار بعد اتضح لهم ماكان خافياً أو هم من أغمضوا عن تلك الحقيقة التي تثبت أن علياً عليه السلام أول من كسر الحاجز بين فقراء البلدان الإسلامية وبين أثرياء الطبقة الغنية في قريش، حين اختار الكوفة في العراق مقراً جديداً نقل لها عاصمة الخلافة الإسلامية، والتي كانت في المدينة، وشهدت بوناً شاسعاً بين الطبقات وصل لذروته في أيام عثمان بن عفان الذي أشاح بوجهه عن كثرة نصائح عليٍّ له بضرورة الالتفات إلى الرعية، وعدم ترك الأمور بيد النفعيين والانتهازيين من الأصهار والأقرباء لكن دون جدوى، فثار المسلمون عليه وقتلوه. لقد أراد الإمام علي (ع) بخطوة نقل مركز الخلافة إلى الكوفة أن يعيد إلى المسلمين صورة الإسلام الحقيقي المتفاعل مع معاناة الإنسان، وهي الصورة التي تبددت وكادت أن تتلاشى أيام الثلاثة الذين سبقوه بسبب سياسات يغلب عليها الانفعال والفردية، جاءت هذه الخطوة لتؤكد أن حقيقة الدين وفحواه متجسدتان في (إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس للمدينة المنورة (مكاناً) أو فلان وفلان (صحابياً مقرباً) أي امتياز مالم يكن عاملاً بالضوابط التي ترسخ القيمة العليا للإنسان الذي كرمه الله وفضله على سائر مخلوقاته. ومن الطبيعي وإزاء هذا الاعتدال أن يثور النفعيون والانتهازيون حتى وإن كانوا من الصحابة الأوائل، فهم أدركوا أن بساط المصالح سُحِبَ من تحتهم والوقت الآن هو وقت العدالة الاجتماعية التي غابت منذ الإغماضة الأخيرة للرسول الأكرم (ص)، والآن عادت في عهد صهره وثقته والمنادي به يو غدير خم وعلى رؤوس الأشهاد: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، فبدأوا بتحركاتهم المعارضة لمنهج الاعتدال وقد أنتجت هذه التحركات إراقة المزيد من دماء المسلمين في حروب انتهت لصالح الأمير المسالم الكاره لأي قتال ولأي مظاهر للعنف.
إنَّ الإجراءات التي اتخذها الإمام علي (ع)، وعلى كافة الأصعدة؛ سحرت العالم عبر أزمنة كثيرة فصار بحق رائداً للأخلاق العالمية، وإلا كيف نفسر هذه الدراسات والمقالات التي تكتب من منصفين غير مسلمين في الوقت الذي يجري التعتيم على ريادته في العدالة الاجتماعية من قبل مسلمين لهم مالهم من الأجندات المنحرفة؟
فهذا (جبران خليل جبران) يؤكد إنسانية عليٍّ الملتصقة بإيمانه فيقول : "مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه شوق إلى ربه .....، مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافية، غير أني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه".
لم تكن هذه الصورة المخيالية لجبران لتأتي لمجرد عاطفة إنسانية فقط، بل من المؤكد أن (جبران) وغيره من المتصالحين مع الأنسنة بعيداً عن رواسب الجهل والعنصرية والتطرف رأوا في ه شخصية أمير المؤمنين أنموذجاً أخلاقياً عالمياً متكاملاً فكتبوا عنه بكل أريحية، وبكل ما تفرضه الحقيقة من صور وتجليات.
وهذه الأمم المتحدة، تضع منهاج علي وآلياته كمعايير عالمية وإنسانية، واعتمدتها في برامجها الإنمائية، وكذلك في صيغ تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتصدي للفساد، وترسيخ مفاهيم التعايش السلمي، والقبول بالاختلاف شريطة سلميته، ومناهج التعليم، وغيرها من الأمور المتعلقة بالإنسان، وكل هذا أخذته من حكم ووصايا الإمام علي (ع) خلال خطبه وإرشاداته لأصحابه، وهو ما يجعله رائد الإنسانية وأستاذ عولمتها الأخلاقية في عالم يكاد يختنق لولا هواء علي المنعش.
اضف تعليق