اهم عنصر يمكن الاعتماد عليه من اجل النجاح في التحول الى عالم خالي من التلوث، وهو دور الافراد والمجتمعات في حماية البيئة والانتقال نحو توفير الامن البيئي وحماية الكرة الأرضية من مخاطر التلوث، ويتم ذلك عبر تعزيز قيم الوعي البيئي والمبادرات المجتمعية والحملات التطوعية وتشجيع العادات...

عندما نتحدث عن التلوث وأثاره على البيئة وصحة الانسان والمخلوقات الأخرى التي تشاركه الحياة على هذا الكوكب، في الوقت الحالي او المستقبل القريب، فإنه من الصعب الاحاطة بحجم الدمار الذي أصاب عالمنا الأخضر والى أي مدى خطير قد وصل، خصوصاً مع المؤشرات المناخية الخطيرة التي رافقت هذا التدهور والتي دقت ناقوس الخطر وانذرت بكوارث بيئية عالمية كبيرة وقع البعض منها، بينما يؤكد المختصون ان القادم في الطريق.

يعرف التلوث البيئي بطريقة موجزة على انه "دخول مواد او طاقة ضارة الى البيئة مما يؤدي الى الحاق الضرر بالنظم البيئية وصحة الكائنات الحية"، مع الاخذ بعين الاعتبار ان التلوث يحدث عندما تكون كمية الملوثات أكبر من قدرة البيئة على معالجتها وتحليلها بشكل طبيعي، وهنا بالتأكيد سنعرف من هو المسبب الأول للدمار على هذا الكوكب.

وهناك أنواع عديدة من التلوث البيئي، لكن أبرز هذه الأنواع هي التي تتسبب في تدهور البيئة وتؤثر سلباً على صحة الانسان وباقي الكائنات الحية وتدمر النظم البيئية والطبيعية:

1. تلوث الهواء: يحدث نتيجة انبعاث الغازات الضارة مثل (ثاني أوكسيد الكاربون، ثاني أكسيد الكبريت، أكسيد النيتروجين) من المصانع والمركبات، وله اثار خطيرة على جودة الهواء وانتشار الامراض التي تصيب الجهاز التنفسي والقلب.

2. تلوث الماء: ينتج عن القاء النفايات الصناعية والمياه الملوثة وغيرها في الأنهار والبحيرات والمحيطات، يؤدي تلوث مصادر المياه العذبة على الحياة البحرية، كما يجعل المياه غير صالحة للاستعمال البشري، إضافة الى (التلوث الحراري) الذي يحدث عندما ترتفع درجة حرارة المياه نتيجة لتصريف المياه الساخنة من العمليات الصناعية ومحطات الطاقة، والذي يساهم ايضاً في اختلال توازن النظام البيئي المائي.

3. تلوث التربة: يحدث نتيجة استخدام المبيدات والاسمدة الكيميائية او تسرب المواد الكيميائية السامة الى التربة من المواقع الصناعية وهو ما يؤثر على خصوبة التربة ويضر بالنباتات والحيوانات التي تعتمد الأرض كمصدر للحياة.

4. التلوث الضوضائي والضوئي: ناتج عن الأصوات العالية والمتواصلة نتيجة لتطور الحياة (حركة المرور، الطائرات، الأنشطة الصناعية، المناسبات العامة...الخ)، يؤدي هذا التلوث الى مشاكل صحية خطيرة منها (فقدان السمع، الاجهاد، اضطراب النوم)، اما التلوث الضوئي فهو نتيجة الاستخدام المفرط وغير المنظم للإنارة الصناعية، وله اثار صحية خطيرة تصيب جميع الكائنات الحية بلا فرق. 

أسباب التلوث البيئي

هناك أسباب كثيرة تقف وراء الكوارث البيئية التي أحاطت بعالمنا وتلاعبت بالنظام البيئي، لكن يمكن وضع جميع هذه الأسباب في عنوان واحد هو جشع الانسان ومصالحة الخاصة ورغبته في تحقيق المزيد من الأرباح من دون تحقيق توازن بين حجم التلوث الهائل التي تخلفه الصناعة وملحقاتها وقدرة الطبيعة على تحليلها كما سبق ذكره.

ان من أبرز أسباب التلوث البيئي:

1. النشاط الصناعي والانبعاثات الناتجة عنه: ان المصانع والمرافق الصناعية تنتج كميات كبيرة من الملوثات كالدخان والجسيمات الدقيقة والمواد الكيميائية السامة التي يتم اطلاقها كمخلفات صناعية في الهواء والماء.

2. النقل والمركبات والانبعاثات الكربونية: السيارات والشاحنات والطائرات تنتج نسب عالية من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (ثاني أوكسيد الكاربون، أوكسيد النيتروجين) التي تساهم في تلوث الهواء وتغير المناخ.

3. النفايات البلاستيكية: ان تراكم النفايات البلاستيكية في المحيطات والبحار يضر بالحياة البحرية بشكل خطير ويؤدي الى اختلال النظام البيئي فيها.

4. الأنشطة الزراعية واستخدام المبيدات والاسمدة الكيمياوية.

5. إزالة الغابات: ان قطع الأشجار وإزالة الغابات لزيادة الاستخدامات الصناعية المفرطة عليها أثر بشكل كبير على توازن النظام البيئي وأدى الى فقدان المواطن الطبيعية للعديد من الكائنات الحية، إضافة الى زيادة انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون في مقابل انخفاض انتاج الاوكسجين.

اثار التلوث على البيئة والصحة

للتلوث اثار بيئية وصحية خطيرة جداً، ويؤدي تراكمها الى ازدياد المشاكل والاثار بعيدة الأمد على المجتمعات الإنسانية عامة، فالتلوث الذي يترك اثارة المدمرة في مختلف القطاعات سينعكس اثرة، في نهاية المطاف، بشكل مباشر على القطاع الاقتصادي لأنه:

1. زيادة نسب التلوث تعني زيادة الامراض وبالتالي زيادة تكاليف الحاجة الى الرعاية الصحية لمعالجة الامراض المرتبطة بالتلوث، إضافة الى تسببها بانخفاض او ضعف الإنتاجية.

2. التأثير المباشر وغير المباشر للتلوث على قطاعات اقتصادية مهمة (السياحة، الزراعة، الصيد...الخ)، مما يؤدي الى تكبد الاقتصاد خسائر كبيرة.

وهذا يعني العودة الى المربع الأول، فالخط البياني لنمو الانتاج وارتفاع وتيرة الاقتصاد يهدف الى تحقيق الرفاه والسعادة وازدهار الحياة الإنسانية وليس العكس، مثلما لا يمكن جمع الشيء ونقيضه، فالنجاح الاقتصادي لا يكون على حساب تدمير النظام البيئي وتطرف المناخ، بل من خلال تقديم حلول مستدامة تحافظ على البيئة وتوفر البدائل المناسبة لتجنب الاثار الخطيرة لعملية الإنتاج عالية المخاطر.

توفير الحلول المستدامة

هناك العديد من الحلول المستدامة التي يمكن تبنيها لتقليل الضرر الى الحد المقبول لتجنب التدهور المستمر في بنية النظام البيئي للكرة الأرضية، وهي تحتاج الى التعاون العالمي والمحلي والدعوة للعمل المشترك (افراد، حكومات، شركات، منظمات) لتحقيقها من اجل الحفاظ على البيئة منها:

استخدام الطاقة المتجددة والتي تعتبر من الحلول الرائدة التي لها مستقبل كبير في ظل التقدم التكنولوجي الهائل للبحث عن الطاقة البديلة (الطاقة الشمية، طاقة الرياح)، وهي تحتاج الى دعم حكومي من اجل نجاح مشاريع الطاقة المتجددة.

كذلك الحث على برامج إعادة تدوير النفايات التي تحولت الى مشكلة عالمية، مع التشجيع على تقليل استخدام البلاستيك والتعويض بالمواد القابلة للتحلل.

اما في مجال الزراعة فيمكن الاعتماد على الزراعة العضوية وتقليل استخدام المبيدات والاسمدة الكيميائية لتجنب اثارها الملوثة على التربة وصحة الانسان والكائنات الأخرى، إضافة الى حماية المناطق الخضراء ومنع إزالة الغابات، وتفعيل مبادرات التشجير وزيادة المساحات المزروعة.

ولا يمكن تحقيق ما سبق من دون اهم عنصر يمكن الاعتماد عليه من اجل النجاح في التحول الى عالم خالي من التلوث، وهو دور الافراد والمجتمعات في حماية البيئة والانتقال نحو توفير الامن البيئي وحماية الكرة الأرضية من مخاطر التلوث، ويتم ذلك عبر تعزيز قيم الوعي البيئي والمبادرات المجتمعية والحملات التطوعية وتشجيع العادات البيئية الإيجابية وغيرها.

الامام الشيرازي والبيئة

لقد تطرق المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي الى المشكلات البيئية وطرق معالجتها وفق منظور إسلامي وعلمي دقيق عبر كتابه (البيئة) والذي تناول فيه بالتفصيل كل ما يتعلق بالبيئة واهم المشاكل وكيفية علاجها حتى لا نصل الى الواقع الذي عليه نحن اليوم.

فقد حذر من عاقبة تدخل الانسان في قوانين البيئة التي سنها الخالق (عزوجل) والاخلال بتوازن عناصرها بحيث تكون ضارة للإنسان والكائنات الأخرى، وقد فصل الحديث عن خطر تلوث الهواء والماء والتربة والنفايات الصناعية وغيرها، بالإضافة الى شرح طرق الوقاية وكيفية الحفاظ عليها ضمن الحدود الامنة والطبيعية.

كما أشار الى أنواع أخرى من التلوث الحديث (الصوتي، الاشعاعي، الذري، الكيمياوي...الخ) ووضع الحلول العلمية والعملية لها لتجنب اثارها الاقتصادية والصحية الكارثية على الأرض ومن يعيش عليها من الكائنات الحية.

فيما يرى (رحمه الله) ان الحضارة الحديثة وما رافقها من تقدم العلمي وثورة صناعية رغم كثرة فوائده، لكنها خرجت من مظلة القرآن والانبياء (باعتبار ان الرسالات السماوية تختار الاصلح والأفضل للعباد والبلاد)، بسبب الجشع والبحث عن الثراء الفاحش وجعل الاهتمام المادي بديلاً عن الاهتمام بالبشرية فنتج عن ذلك "امراض وكوارث لا تعد ولا تحصى، فلا علاج من هذه الامراض والمشاكل والاوبئة الا بالعزوف عن هذه المظاهر والتوجه الى مظلة الأنبياء (ع) والخشية من الله سبحانه وتعالى والخشوع اليه وجعل الانسان هو المحور لا المادة والدنيا".

ودعا الامام الشيرازي الانسان الى عدم استغلال البيئة وان يتعايش معها وفق مفهوم تبادل المنفعة، كما أشار الى مسألة "اخلاقيات البيئة" التي تقضي ان يعيش الانسان مع بيئته ضمن إطار الاخلاق الإنسانية المبنية على العدالة الاجتماعية لجميع الافراد والجماعات، وهو موقف يعطي للإنسان والمجتمع من الأهمية ما يعطيه للبيئة التي يعيش فيها الاثنان.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2024

http://shrsc.com

اضف تعليق