في شهر يونيو من العام الحاليّ، خلال الأسابيع التي خيَّمت فيها "قبة حرارية" ذات حر لافح على الدول الغربية بأمريكا الشمالية، ارتفعت درجات الحرارة ارتفاعًا حادًا، فاق معدلاتها الطبيعية بـ20 درجة مئوية في بعض المناطق. فبلغت في بلدة لايتون، بمقاطعة كولومبيا البريطانية 49.6 درجة مئوية...
بقلم: لاد كيث، وسارا ميرو، وديفيد إم. هوندولا، وفي. كيلي تيرنر، وجيمس سي. آرنوت
تحتاج المدن حول العالم إلى إجراءات حوكَمة من أجل التخطيط لمواجهة درجات الحرارة الشديدة، وحماية الأشخاص الأكثر عُرضة لمخاطر موجات الحر.
في شهر يونيو من العام الحاليّ، خلال الأسابيع التي خيَّمت فيها "قبة حرارية" ذات حر لافح على الدول الغربية بأمريكا الشمالية، ارتفعت درجات الحرارة ارتفاعًا حادًا، فاق معدلاتها الطبيعية بـ20 درجة مئوية في بعض المناطق. فبلغت في بلدة لايتون، بمقاطعة كولومبيا البريطانية 49.6 درجة مئوية، محطمةً أعلى قيمة سُجِّلت على مستوى كندا سابقًا، قبل أن يأتي على البلدة حريق غابات مدمر. (انظر Nature 595, 331–332; 2021). وقد أسفرت موجة الحر تلك - التي عصفت بأجزاء مختلفة من المنطقة - عن وفاة أكثر من ألف شخص.
وفي أثناء ذروة موجة الحر تلك في أوريجون وواشنطن، زار ما يزيد على ألف شخص يوميًا أقسام الطوارئ في المستشفيات جرَّاء تعرّضهم لإجهاد الحر وإصابتهم بضربات الشمس، بالمقارنة مع تسعة أشخاص فقط في عام 2019. وقد لجأ بعضهم إلى المكتبات ومراكز المؤتمرات مكيّفة الهواء اتقاءً لشدة الحر. بيد أن كثيرين -لا سيما من كبار السن- لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه المراكز لطيفة الهواء. فمن بين حالات الوفاة التي فاقت عددها المعتاد لتبلغ 54 حالة في مقاطعة مولتنوماه بولاية أوريغون (إذ بلغت درجة الحرارة عند أعلى مستوياتها 46.7 درجة مئوية)، تجاوزت أعمار 80% ممن لقوا حتفهم الستين عامًا، وكان أغلبهم يعيش بمفرده.
ولم تكن الحكومات على استعداد كافٍ لمواجهة مثل هذا الحدث المناخي. تنبأت التوقعات الجوية بموجة الحر، لكن لم يتحمل أحد "مسؤولية" مواجهة المشكلة. فموجات الحر من المخاطر غير المألوفة؛ إذ إنها غير مرئية، ومزمنة في أحيان كثيرة، وقادرة على الانتشار خلسة. وعلى عكس الحال مع الفيضانات أو حرائق الغابات، لا توجد هيئة أو إدارة مسؤولة عن تنسيق الاستجابات لمواجهة الحر الشديد. وكثير من السكان لا تُتاح لهم الموارد للتكيف مع مثل هذه الظاهرة.
وتوخيًا للإنصاف، فموجات الحر من الأخطار المعقدة؛ إذ تدخل فيها عوامل لا تقتصر على درجة حرارة الهواء، فدرجة حرارة سطح الأرض، ودرجة الحرارة المشعة، وحركة الهواء، ومستوى الرطوبة كلها عوامل تؤثر في الحر الذي نشعر به. وعادةً ما تكون المناطق الحضرية أكثر حرًا من المناطق المحيطة بها (في ما يُعرف بتأثير الجزيرة الحرارية الحضرية). لكن حتى في المدن، يمكن أن يختلف إحساس المرء بالحرِّ اختلافًا كبيرًا من مربع سكني إلى آخر، أو من مقعد ظليل أسفل شجرة إلى مقعد آخر تحت أشعة الشمس المتقدة. وتعتمد تأثيرات الحر على السياق وأوجه عدم التكافؤ المحلية1 فالجميع معرضون لمخاطره. بيد أن أكثر من يتأثر سلبًا به هو المهمّشون أو الفقراء أو صغار السن أو كبار السن أو المشردون أو المودَعون بمؤسسات رعاية أو المرضى ذوو المشكلات الطبية.
ويُتوقع أن تتفاقم تأثيرات الحر الشديد. فموجات الحر أصبحت أكثر تواترًا وحدّة وانتشارًا، بل وأطول أمدًا مع احترار المناخ. وقد كان شهر يوليو من عام 2021، أشدّ الشهور حرًا على مر التاريخ على مستوى العالم. كما شهدت أوروبا ارتفاعات غير مسبوقة في درجات حرارتها شهر أغسطس الماضي، إذ أفادت التقارير بأن درجات الحرارة في صقلية، على سبيل المثال، بلغت 48.8 درجة مئوية.
ولم يُقدِم على التصرف لمواجهة الموقف سوى بقاع قليلة. فهذا العام، عيَّنت مقاطعة ميامي-داد في ولاية فلوريدا ومدينة أثينا باليونان أوَّل شخصين في العالم يتوليان منصب مسؤول أوّل لشؤون الحر. وأسست مدينة فينيكس بولاية أريزونا -بتمويل حكومي- أوّل مكتب للاستجابة لموجات الحر والتخفيف منها. ولا تزال خطوات كثيرة يُنتظر اتخاذها.
وندعو إلى إطلاق برنامج بحوث يركز على دعم "حوكمة أحداث الحر"، بما في ذلك دعم الجهات الفاعلة، والاستراتيجيات، والعمليات، والمؤسسات التي يمكنها التخفيف من مخاطر هذا الحر وإدارته. ويجب إنشاء المؤسسات ووضع السياسات من أجل مواجهة الحر على مختلف مستويات الحكومات، علمًا بأن تحقيق ذلك يتطلب إرساء قاعدة أدلة محكمة.
ستة مبادئ
على صنّاع القرار والباحثين الاضطلاع بما يلي: النهوض بالإنصاف في سياسات مواجهة الحر. تؤثر العنصرية وتفاوت الدخول في قدرة الأشخاص على الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والتعليم والإسكان والطاقة والوظائف، وكذلك على المشاركة في صنع القرارات الحكومية. وهذه العوامل كافة تتحكم في نتائج التعرض للحر. فغياب وحدات تكييف الهواء في المنازل يُعدّ من العوامل المهمة التي تُنذِر باحتمالية الإصابة باعتلالات ووقوع وفيات جرَّاء الحر. ومن اللافت أنه في عام 2017، لم يُتح لـ840 مليون شخص إمدادات من الكهرباء. وفي بعض مدن الولايات المتحدة، بما فيها شيكاجو وديترويت، من المرجَّح أن عدد السكان البيض الذين يملكون وحدات تكييف هواء يزيد على ضعف عدد نظرائهم من السكان السود3. أما في باكستان، فمن المتوقع ألا يحصل سوى 5% من أصحاب الدخول المنخفضة على وحدات تبريد داخل منازلهم بحلول عام 2050، في مقابل نسبة قدرها 38% بين أصحاب أعلى الدخول4.
وجدير بالذكر أن الحرَّ المُصاحَب برطوبة يكون وخيم التبعات. على سبيل المثال، شهدت مدن عديدة في باكستان بالفعل درجات حرارة ومستويات من الرطوبة أعلى من تلك التي يستطيع الجسم البشري تحملها، مثَّلت الحد الأدنى الذي توقعت النماذج المناخية بلوغه بعد عام 2050 (المرجع 55). وقد زادت معدلات حدوث موجات الحر الشديد المصحوب برطوبة بنسبة أكبر من الضعف منذ عام 1979.
ويركّز معظم تحليلات أضرار الحر المحتملة على تحديد المناطق السكنية الأكثر عُرضة لدرجات الحرارة المرتفعة. بيد أن ثمة تعقيدات أكبر في رصد مخاطر الحر. وعلى الباحثين مراعاة الإنصاف عند دراسة الكيفية التي تجتمع بها عوامل خطر متعددة عند المفاضلة بين مختلف الاستراتيجيات المطروحة من أجل مكافحة الحر. فعلى سبيل المثال، تُولد أجهزة تكييف الهواء بعض انبعاثات غازات الدفيئة، وتخضير المناطق الحضرية يزيد من استهلاك المياه. وتُعد آثار جانبية كهذه مقبولة في بعض المناطق الفقيرة بالموارد، على المدى القصير على الأقل، عنها في المناطق الأكثر ثراءً حيث يمكن أن يتأقلم السكان معها بسهولة أكبر. وينبغي إعطاء الأولوية لحلول التبريد المنزلية ذات الانبعاثات الكربونية المنخفضة والأطول أمدًا، بالإضافة إلى زراعة النباتات الظليلة ذات الاستهلاك المنخفض للمياه بالمناطق الحضرية.
ويجب أن يتعاون صنّاع القرار مع أفراد المجتمع من أجل تحديد فئات الأشخاص الأكثر تأثرًا سلبًا بالحر، وأسباب ذلك، وأفضل سبل التعامل مع هذه المسألة. وأحد الأمثلة الجيدة في هذا السياق يقدِّمها النظام الوطني الأمريكي المدمج للمعلومات الصحية المتعلقة بالحر (NIHHIS)، والذي كان تطويره ثمرة جهود مشتركة بين مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA). وقد تولى أحد مشروعات هذا النظام الوطني تأهيل العاملين في مجال الصحة المجتمعية ومقدّمي خدمات الرعاية الصحية للأمهات في منطقة خواريز إل إلباسو الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك، من أجل تحسين الأحوال الصحية في مواجهة الحر. وقد حصلت الحوامل على مواد صحية وُفِّرت لهنَّ بلغتين، لمساعدتهن على رصد أعراض الجفاف وإجهاد الحر.
التخفيف من حدّة الحر. تملك جهات تخطيط المناطق الحضرية وتصميمها في جعبتها كثيرًا من الاستراتيجيات لتبريد المدن. فبإمكانها التحكم في استخدامات الأراضي من خلال التشريعات المنظمة للتخطيط والتطوير6 كما باستطاعتها حماية المناطق الطبيعية، وزراعة الأشجار، وجعل الأسطح الصلبة أكثر قدرة على عكس أشعة الشمس، وتهيئة مساحات تسمح بتدفق الهواء، والحدّ من العوادم الحرارية من وحدات تكييف الهواء والمركبات. وعلى الباحثين تقرير مدى فاعلية هذه الاستراتيجيات في الأماكن والظروف المختلفة، وكيفية تفاعلها مع بعضها، وماهية تأثيراتها التراكمية. فعلى سبيل المثال، يكون لممرات التهوية تأثير أكبر نسبيًا في المدن كثيفة السكان ذات البنايات الطويلة، مثل هونج كونج وطوكيو. ويشير بعض النماذج إلى أن الأسقف "الباردة" العاكسة من شأنها خفض درجات الحرارة بمقدار 0.2 درجة مئوية في المدن الرطبة، مثل فلوريدا، ولكن بمقدار 1.2 درجة مئوية في المدن الأكثر جفافًا، مثل كاليفورنيا، بالمقارنة مع الأسقف "الخضراء" المزروعة بالنباتات7 .
ويجب المفاضلة بين هذه الاستراتيجيات بعناية. على سبيل المثال، في لوس أنجلوس، نجحت إحدى التجارب لتبريد أرصفة الطرق عن طريق طلائها بلون أفتح في هدفها المعلن8؛ إذ خفضت درجة حرارة سطح الأرض (LST) بمقدار يتراوح ما بين 4 إلى 6 درجات مئوية، لكن تسببت الحرارة المنعكسة في ارتفاع متوسط درجة الحرارة الإشعاعية (MRT) فوق الرصيف بـ4 درجات مئوية في منتصف النهار، بالمقارنة مع الأسفلت غير المعالج بالطلاء. وفي مثال آخر، كشف أحد نماذج التخضير الحضري في مدينة فينيكس عن أن زيادة الغطاء النباتي بنسبة 20% من شأنها خفض درجة حرارة المدينة، ولكن نظير ارتفاع استخدام المياه بنسبة 33% تقريبًا9.
ويجب أن تستهدف جهود التخفيف من حدّة الحر الفئات الأكثر عُرضة للخطر؛ وهذا يعني التركيز على التخضير الحضري في المناطق الأقل في نسب الغطاء النباتي، وغالبًا المناطق الأكثر فقرًا، وليس الضواحي الأكثر امتلاءً بالنباتات المورقة. كما ينبغي زيادة النباتات الظليلة في المساحات العامة الأعلى في معدلات التردد عليها، مثل مراكز وسائل النقل ومناطق التسوق، مع ربطها بممرات باردة للمشاة وركاب الدراجات.
إدارة المخاطر: بوسع الحكومات أيضًا اللجوء إلى مجموعة من الاستراتيجيات المختلفة لإدارة المشكلات المرتبطة بالحر، بما في ذلك: أنظمة الإنذار المبكر، وحملات الصحة العامة، وسياسات حماية العمال في الأماكن المفتوحة، وبرامج توفير وحدات الطاقة والتبريد في الأماكن المغلقة وجعلها أيسر تكلفةً. ويتعيَّن على الباحثين تحديد مدى فاعلية كل من هذه الاستراتيجيات، وكيف يختلف مفعولها باختلاف المجموعات السكانية.
على سبيل المثال، لم تقيِّم إلا دراسات قليلة فاعلية أنظمة الإنذار المبكر في مواجهة موجات الحر الشديدة، على الرغم من تفعيل بعض هذه الأنظمة على مدار عقود. ففي بالتمور بولاية ميريلاند الأمريكية، على سبيل المثال، عمد مفوّض الشؤون الصحية منذ عام 2006 إلى إصدار إنذار بفرض حالة من التأهب عندما تتجاوز درجة حرارة الهواء 40.6 درجة مئوية، إذ تُرسل الرسائل النصية للأفراد في شتى المناطق، وتعكف المنافذ الإعلامية على بث المعلومات، وتفتح مراكز تلطيف الهواء أبوابها. وقد اعتمدت مدينة أحمد آباد في الهند خطة لمواجهة الحر عام 2013 بعد أن أودت موجة حر عصفت بالمدينة عام 2010 بحياة أكثر من 1300 شخص. وتشمل الخطة، المحدّثة في عام 2019، تنظيم ورش عمل من أجل بناء الوعي الجماهيري، وبث تصريحات بلغات عدة عبر وسائل الإعلام، واعتماد نظام للإنذار المبكر، وتقديم التدريب لمختصي الرعاية الصحية. وينبغي تقييم مثل هذه الأنظمة باستمرار. على سبيل المثال، تخضع أنظمة مواجهة الحر في مدينة أحمد آباد للمراجعة كل عام.
كذلك، يجب توسيع نطاق جهود إدارة مخاطر الحر لتشمل مواجهة الحر المزمن. فعلى سبيل المثال، من عام 2015 إلى عام 2019، في مقاطعة ماريكوبا بولاية أريزونا الأمريكية، لم تسجل المقاطعة إلا نسبة قوامها 23% من الوفيات المرتبطة بالحر في الأيام التي انطلقت فيها إنذارات للتحذير من هذا الخطر. وفي مناطق المناخ الاستوائي وشبه الاستوائي، يمكن أن تستمر موجات ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة أشهر10. ومن الملاحظ أن معدل التعليم المدرسي ينخفض مع زيادة عدد أيام الحر.
وضع معايير لتدابير مواجهة الحر:
يجب الاتفاق على القياسات التي تقيِّم مدى التقدم المُحرز نحو تخفيف مخاطر الحر وإدارتها، مع أخذ هذه القياسات بانتظام. فعلى سبيل المثال، ربما يركّز مسؤولو الصحة العامة على درء الأمراض وحالات الوفاة المرتبطة بالحر، في حين قد تقيس جهات تخطيط المدن والمناطق الحضرية نجاح تدابير مواجهة الحر بمدى انخفاض درجات الحرارة بالمناطق السكنية. كذلك تحتاج الحكومات إلى إرساء مجموعة من المقاييس التي تغطي مستويات وقطاعات مختلفة.
وتتمثَّل إحدى المشكلات بهذا الصدد في وضع مقاييس تغطي مختلف أنواع الحر. على سبيل المثال، يُقاس تأثير ظاهرة الجزر الحرارية الحضرية عادةً باستخدام درجة حرارة سطح الأرض التي تُستنتَج عبر صور الأقمار الصناعية. وغالبًا ما يُقاس مقدار تعرّض الأشخاص للحر باستخدام درجة الحرارة المشعة الوسيطة، والتي تقاس بعدّة عوامل مجتمعة، مثل مستوى الرطوبة والرياح والحرارة المشعّة. وكما أظهرت دراسة الأرصفة الباردة في ولاية لوس أنجلوس الأمريكية، فإن التدخّلات التي من شأنها خفض درجة حرارة سطح الأرض قد تؤدي إلى تفاقم درجة الحرارة المشعّة الوسيطة.
ويجب على الباحثين أن يقدِّموا المشورة لصُنّاع القرار بشأن ماهية مستويات درجات الحرارة التي ينبغي معها تطبيق الأهداف والاستراتيجيات الموضوعة للتخفيف من حدة الحر. فيلزم الأخذ في الاعتبار الآثار الاجتماعية، والتوقيت المناسب من اليوم، وكذلك فصل تطبيق هذه التدابير. على سبيل المثال، غالبًا ما يصل تأثير الجزر الحرارية الحضرية إلى أعلى مستوياته ليلًا وفي الصباح الباكر، لكن قد تكون زيادة توفير الأماكن الظليلة خلال ساعات النهار أجدى أثرًا على صعيد الصحة العامة.
وعلى الرغم من أن عدد الزيارات إلى مراكز تلطيف الهواء يُسجل أحيانًا، فنادرًا ما تُقاس فاعلية هذه المرافق في الوقاية من الأمراض والوفيات المرتبطة بالحر. وغالبًا ما تستقبل مراكز تلطيف الهواء زوّارها خلال ساعات النهار فقط، وليس ليلًا، في حين أن الحر يمكن أن يحول دون التمكن من النوم وتماثل الجسم للشفاء. كما أن هذه المراكز عادةً ما تُغلق عدا فترات موجات الحر التي تُعلَن "رسميًا"، حتى إذا تواصل ارتفاع درجات الحرارة.
وغالبًا ما ينصب تركيز التقارير المعنية بالتغير المناخي على متوسط درجات الحرارة العالمية، لكن حتى وقوع تغيُّر طفيف في متوسط درجات الحرارة، من شأنه أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في عدد أيام الحر الشديد. على سبيل المثال، تشير النماذج المناخية إلى أن تزايد درجات الحرارة بمقدار يتراوح بين 1.5 درجة مئوية إلى درجتين مئويتين قد يضاعِف بثلاث مرات تقريبًا النسبة المئوية لشرائح السُكّان المُعرَّضة لخطر موجات الحر الشديد كل خمس سنوات على الأقل على مستوى العالم، من نسبة تبلغ 14% إلى 37% (المرجع 1212).
وغالبًا ما تُعلَن قياسات الحر بصورة غير منتظمة. وتختلف تقديرات معدّلات الوفاة المرتبطة بالحر عبر التعدادات المحلية والوطنية، كما تقلّ عن التقديرات التي يجري التوصُل إليها إحصائيًا من الوفيات الزائدة عن المعتاد. وكثيرًا ما يفتك الحر بضحاياه بصورة غير مباشرة، وقد لا يُدرج بعض حالات الوفاة، كالأزمات القلبية الناجمة عن الحرِّ، بتقارير المحققين في أسباب الوفاة. وعلى الرغم من أن 37% من الوفيات المرتبطة بالحر على مستوى العالم قد نُسب إلى الاحترار العالمي الذي يتسبب فيه البشر، لا تتوافر بيانات تجريبية في الجنوب العالمي بهذا الشأن، وهي منطقة يثير فيها ارتفاع درجات الحرارة كثيرًا من المخاوف.
تنسيق المبادرات: ثمة حاجة إلى تكريس مناصب وإجراءات وأنظمة على مستوى المدن من أجل إدارة مخاطر الحر. بما في ذلك وسائل مثل التخطيط الحضري، وتدابير خاصة بالصحة العامة، وإدارة حالات الطوارئ، والإسكان، والبنية التحتية، والتمويل، والرعاية الصحية، والطاقة. ومن شأن الأبحاث التي تدرس ماهية الأنظمة الأكثر فاعلية في إدارة مخاطر الحر أن تساعد المدن على نقل الخبرات إلى بعضها.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تحقيق التكامل بين خطط المجتمعات المحلية وسياساتها من أجل تجنّب وضع أهداف متعارضة. على سبيل المثال، قد تتطلب إحدى هذه الخطط إنشاء مزيد من العقارات التجارية أو السكنية من أجل تحقيق عائد من الضرائب على المبيعات، لكن ما يرتبط بذلك من إتاحة مناطق لركن المركبات وتوسعة للطرق وإزالة للأشجار سيؤدي إلى رفع درجات الحرارة المحلية. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تقرير مدينة نيويورك عن الأحياء السكنية الباردة، والذي يتضمَّن أهدافًا مشتركة في ما يخص استراتيجيات التخفيف من الحر وإدارته، مثل زراعة الأشجار، وتركيب الأسقف العاكسة للضوء، وابتكار أنظمة تكافل لتوفير المساعدة للسكان المعرضين للخطر.
من جهة أخرى، تمتد موجات الحر أيضًا من حدود ولاية إلى أخرى، ما يتطلب تنسيقًا على المستوى الإقليمي. ومن الأمثلة على الممارسات الجيدة في هذا الشأن الاستراتيجيات التي وضعتها منظمة المجالس الإقليمية لغرب سيدني في أستراليا. وتتضمَّن خطتها المعروفة بـ"خطة خفض الحر"Turn Down the Heat لعام 2018 استراتيجيات للتخفيف من الحر وإدارته، وقد استمدَّت مدخلاتها من 13 بلدية، ومن القطاع الخاص، والجامعات، والمنظمات غير الحكومية.
تدشين مؤسسات معنية بشؤون الحر: ينبغي للحكومات الوطنية أن تواجه التبعات الهائلة والظالمة والمتنامية لمخاطر الحر. ويمكن أن يكون لذلك فوائد مباشرة. على سبيل المثال، نجد أن الخطة الوطنية لمواجهة موجات الحر التي اعتمدتها فرنسا عقب موجة الحر التي عصفت بالبلد في عام 2003 وأودت بحياة 15 ألف شخص، قد أنقذت أكثر من 4 آلاف شخص في عام 2006. وقد اشتملت عناصر الخطة على نظام للإنذار، وأماكن إقامة للسكان المعرضين للخطر، ووحدات تكييف الهواء لدور المسنين، فضلًا عن إجراءات أخرى.
وينبغي إطلاق برامج وطنية من أجل تنسيق الجهود المتفرقة. ففي الولايات المتحدة، تطلق الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي إنذارات محذرة من موجات الحر، في حين توفر وكالة حماية البيئة إرشادات وتوجيهات للتخفيف من حدة الحر. أما مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، فتوفر معلومات متعلقة بالصحة العامة وتتبع الأمراض الناشئة عن الحر. ومن أجل تضافُر هذه الجهود معًا، أُنشئ النظام الوطني الأمريكي المدمج للمعلومات الصحية المتعلقة بالحر (NIHHIS) في صورة فرق عمل تضم وكالات متعددة وكوكبة من أهل الاختصاص، بالإضافة إلى عدد من صنّاع القرار على مستوى البلديات، لكن حتى الآن لا يزال هذا النظام يفتقر إلى السلطات والصلاحيات الرسمية. وينبغي للحكومات الوطنية أن تدعم المبادرات المماثلة.
ويجب سد الفجوات في الأطر التنظيمية والسياسات. فكما هي الحال مع تشريعات مكافحة تلوث الهواء والماء، ينبغي تحديد عتبات موجات الحر الناجمة عن البيئات الحضرية. وينبغي اعتماد "معايير المجتمعات ذات درجات الحرارة المعتدلة" التي تدمج استراتيجيات التخفيف من حدّة الحر في التشريعات الخاصة بأعمال التطوير والإنشاءات. وينبغي للحكومات أن تستعير بعض الممارسات المثلى من مجالات مشابهة، مثل إدارة الفيضانات، إذ يجب على مطوّري العقارات التصدي للمخاطر التي يشكلها وقوع الفيضانات على البنايات الجديدة.
كما يجب تقييم الأدوار والإجراءات والاستراتيجيات والمؤسسات الجديدة التي تدخل في جميع هذه الخطوات. كما ينبغي مشاركة المعلومات المتعلقة بإدارة مخاطر الحر على المستوى الدولي، مثلًا من خلال الشبكة العالمية لمعلومات شؤون الصحة المرتبطة بالحر، والتي تُشرف عليها منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية (انظر https://ghhin.org). فمنتدى هذه الشبكة يتيح فرصة جيدة للمتخصصين والباحثين لتنمية القدرات المرتبطة بإدارة مخاطر الحر على المستويات المحلية، وانطلاقًا منها حتى المستويات العالمية.
اضف تعليق