q
يلجأ مسؤولو تخطيط المدن في جميع أنحاء العالم إلى أساليب عديدة، في محاولة للتغلب على الحر. يتمثل أحدها في إبقاء الأماكن العامة، مثل الحدائق أو المراكز المجتمعية مكيفة الهواء ومفتوحة لساعات طويلة في أثناء الموجات الحارة؛ وهو ما يوفر متنفسًا للأشخاص الذين يعانون من شدة الحر في بيوتهم...
بقلم: ألكسندرا ويتزي

يعكف العلماء حاليًّا على وضع مخطط يوضح أوجه الارتباط بين الأصل العِرْقي، والفقر، والحَرّ في المدن، ويطرحون حلولًا للحد من المخاطر التي تتأتى مع هذه العلاقة.

عانى سكان مدينة نيويورك من درجات حرارة قاربت أعلى درجات الحرارة المسجلة في المدينة على الإطلاق في أواخر يونيو الماضي، وذلك خلال موجة حر أسفرت عن حدوث انقطاع في التيار الكهربائي لمرّات عديدة.

لجأ لويس رودريجيز إلى المكوث في غرفة نوم أطفاله في الشهر الماضي عندما ضربت موجة من الحر اللافح القاسي الحيّ الذي يقطن فيه في مدينة لوس أنجيليس الأمريكية، وسائر المناطق الواقعة في جنوب غرب الولايات المتحدة. كانت تلك الغرفة هي الوحيدة المزودة بجهاز لتكييف الهواء في المنزل، وبالتالي كانت المكان الأكثر أمانًا به عندما ارتفعت درجات الحرارة خارج المنزل إلى أكثر من 40 درجة مئوية.

آنذاك، كان رودريجيز يقضي يومه بالكامل في العمل على جهاز الكمبيوتر الخاص به، حيث عمل عن بُعْد مديرًا متطوعًا في منظمة تُسمى "تري بيبول" TreePeople، وهي منظمة بيئية غير ربحية، تقع في بيفرلي هيلز بولاية كاليفورنيا الأمريكية، تعمل على زراعة الأشجار ورعايتها في جميع أنحاء لوس أنجيليس. كذلك أوى ولداه الصغيران إلى الغرفة نفسها مع أبيهما، لتجنب ذلك الحر القاتل. وما كان أحدهم يجرؤ على مغادرة المنزل، إلا مع حلول المساء؛ بعد أن تكون درجة حرارة المنزل قد ارتفعت بدرجة كبيرة تجعل الطقس خارجه أكثر برودة. واعتاد الولدان أن يلعبا تحت ظلال شجرة التين التي زرعها رودريجيز أمام منزله، لِمَا تتمتع به هذه الشجرة من أوراق عريضة وارفة الظلال، وثمار غضَّة.

وجدير بالذكر أنه على طول الطريق من لوس أنجيليس إلى لاجوس، يُعَد الحر الشديد مشكلة آخذة في التفاقم. فمع الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، وشيوع موجات الحر بمعدلات متزايدة، نتيجة الاحترار العالمي، صار سكان المدن هم الأكثر عرضة لمخاطر هذا الوضع؛ فالأسفلت والخرسانة وغيرهما من الأسطح التي تمتص الحرارة ثم تبعثها تجعل كثيرًا من البيئات الحضرية أكثر حَرًّا من الضواحي أو المناطق الريفية.

وتعكف حاليًّا جهات تخطيط المدن، وعلماء الأرصاد الجوية، وخبراء المناخ وغيرهم من العلماء على تحديد الأحياء الأكثر عرضة لمخاطر الحَرّ، بُغية المساعدة في تقليل مخاطر الإصابة بضربات الشمس وغيرها من الأمراض الأخرى المرتبطة بالحر. وترتكز هذه الجهود المبذولة على تنامي الوعي بالخسائر غير المتكافئة التي تُحْدِثها موجات الحر الشديد للأشخاص الملونين وغيرهم ممن يعيشون في المجتمعات ذات الدخول المنخفضة. وقد قادت سياسات تخطيط المناطق الحضرية العنصرية، لا سيما في الولايات المتحدة، إلى جعل مجتمعات الملونين أكثر عرضة لحالات الوفاة والإصابة بالأمراض المرتبطة بالحَرّ من مجتمعات البيض المجاورة.

وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، كشفت مجموعة متزايدة من الأبحاث عن الظلم البيئي الذي جعل بعض السكان يقاسون لهيب الحر فوق مساحات شاسعة من الأسفلت، بينما تنعم أحياء حضرية أخرى بالحدائق الخضراء، والمروج الشاسعة، والأشجار وارفة الظلال. وحول ذلك، تقول إنجيل هِسو، عالمة المناخ من جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل: "لا شك أن هذا مروع". وتستطرد كلامها قائلة: "علينا أن نسأل أنفسنا عن الأسباب التي تقف وراء ذلك، لكي نحاول أن نكتشف سبب ثبات هذه الأنماط وانتشارها بهذه الطريقة".

ولا شك أن ثمة صورًا مماثلة من عدم المساواة تهدد سكان المناطق الحضرية في عديد من البلدان الأخرى، لكن يمكننا العثور على بعضٍ من أفضل الأمثلة الموَثَّقة بالأدلة على هذا الجور في الولايات المتحدة، حيث بدأت دراسات الباحثين لأوجه الارتباط بين السياسات التمييزية ومخاطر الحر في التزايُد. وتعمل مدن عديدة الآن على الأخذ في الاعتبار تحقيق المساواة بين الأفراد في مواجهة موجات الحر في مخططاتها الحضرية، وذلك بعدة وسائل، من بينها زراعة الأشجار، وطلاء الأسقف باللون الأبيض في الأحياء التي عادة ما تتلقى موارد أقل.، بيد أن مِثْل هذه الخطط الرامية إلى التأقلم مع التغيُّر المناخي لا يزال أمامها طريق طويل لمواجهة عقود من الإهمال المتعمَّد للفئات السكانية الأكثر عرضة لتلك المخاطر.

ظروف قاتلة

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن عدد الوفيات الناجمة عن موجات الحر في الفترة ما بين عامي 1998، و2017 على مستوى العالم قد تجاوز 166 ألف شخص. وهو ما يجعل الحر من بين أكثر كوارث الطقس فتكًا، شأنه في ذلك شأن موجات البرد، والفيضانات، والصواعق، والأعاصير. ومع ذلك...، يُستخف عادةً بالآثار المترتبة على موجات الحر؛ لأن شهادات الوفاة تُدرج فيها عادة أسباب وفاة، مثل الإصابة بقصور في القلب، دون أن تلفت إلى تعرُّض المُتوفَّى لدرجات حرارة عالية.

وفي دراسة1 أُجريت عن حالات الوفاة وحالات دخول المستشفيات الطارئة في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية، في الفترة ما بين عامي 2004، و2013، وجد العلماء أن الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عامًا ارتفعت فيما بينهم على الأرجح الأرقام الرسمية لحالات الوفاة الناجمة عن ارتفاع درجات حرارة الطقس. من هنا، تقول أولجا ويلهيلمي، عالمة الجغرافيا من المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي في مدينة بولدر بولاية كولورادو الأمريكية، وواضعة هذه الدراسة: "الحر الشديد هو من الظواهر الطبيعية التي يُبخس تقدير خطورتها"، إذ يمكن أن يؤدي الحر الشديد إلى الإصابة بضربة شمس، أو بإجهاد مميت من جرّائه؛ وهما يحدثان عندما يتعذر على جسم الإنسان تبريد نفسه بدرجة كافية. ويمكن للإجهاد الناجم عن الحر أيضًا أن يؤدي إلى الوفاة من خلال مفاقمة حالات مرضية كامنة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، أو أمراض الجهاز التنفسي. وتتمثل الفئات الأكثر عرضة لمخاطر موجات الحر في الأطفال، وكبار السن، والأشخاص من ذوي الأمراض المزمنة، أو الذين يعملون في الأماكن المفتوحة، بل إن الفئات الأصغر سنًّا من البالغين يمكن أن تكون عرضة للوفاة، إذا ارتفعت درجة الحرارة ارتفاعًا كبيرًا. وتودي فترات الطقس الحار بحياة كثير من الأشخاص، لا سيما عندما لا تنخفض درجات الحرارة بمعدلات كبيرة في أثناء الليل3،2.

وقد حدثت بعض موجات الحر الأكثر فتكًا في مدن ذات طقس معتدل، اندلع فيها فجأة حر شديد. وعلى سبيل المثال، لقي ما لا يقل عن 14 ألف شخص حتفهم في موجة الحر التي اجتاحت فرنسا في عام 2003، كما تُوفي أكثر من 700 شخص في مدينة شيكاجو بولاية إلينوي الأمريكية في عام 1995. كذلك لم يتضح بعد العدد الكامل لضحايا إحدى موجات الحر التي حطمت الأرقام القياسية لأعلى درجات الحرارة في شمال غرب الولايات المتحدة وجنوب غرب كندا في الشهر الماضي، لكن يُعتقد أن مئات الأشخاص لقوا حتفهم من جرّائها.

وعلى الرغم من أن موجات الحر تؤثر سلبًا على سكان المناطق الريفية، فهي غالبًا ما تكون أشد وطأة في المدن. ويعود ذلك إلى ما يُعرف بتأثير الجزر الحرارية الحضرية؛ حيث تتسبب المواد التي تتكون منها الشوارع والمباني في ارتفاع درجة حرارة الهواء بدرجة تزيد عليها في المناطق المورقة. وتكون المناطق الحضرية المركزية خلال النهار أكثر سخونة بعدة درجات مئوية في المتوسط من المناطق الريفية المحيطة بها، بل قد تكون أشد حرًّا من ذلك بكثير.

وفي كثير من المدن حول العالم، تواجه الفئات السكانية الأضعف أشد هذه المخاطر. وعلى سبيل المثال، في قطر، يموت العديد من العمال الوافدين المشتغلين بأعمال الإنشاءات، نتيجة لقصور القلب والأوعية الدموية الناجم عن ضربات الشمس4. وقد وجدت دراسة أُجريت على أكثر من 1300 عامل وفدوا من نيبال، وتوفوا في الفترة ما بين عامي 2009، و2017، أنه لو كان المسؤولون قد طبقوا تدابير وبرامج فعالة للوقاية من الحر، لأمكن إنقاذ حياة ما يصل إلى مائتي عامل من هؤلاء الضحايا. كذلك وجدت دراسة استقصائية5 في بانكوك شملت 505 أشخاص من السكان هناك وأُجريت خلال موسم الحر الذي تعرضت له البلاد في عام 2016، أن الأشخاص ذوي الدخل المنخفض تزايدت احتمالات إبلاغهم عن تعرُّضهم لإجهاد صحي ناجم عن الحر من نظرائهم ذوي الدخل المرتفع.

وتتوقع النماذج المناخية أن تتفاقم حدة هذه المشكلة. ولا يقتصر السبب على ارتفاع متوسط درجات الحرارة صيفًا كما يحدث حاليًّا، بل يرجع كذلك إلى أن موجات الحر أصبحت أكثر تكرارًا وأشد ضراوة، وأطول أمدًا. من هنا، أفاد فريق بحثي دولي في مايو الماضي أن ما يقرب من 37% من الوفيات المرتبطة بالحر في 43 دولة قد يُعزى إلى التغير المناخي الناجم عن الأنشطة البشرية6.

ضريبة موجات الحر غير متكافئة بين سكان البقاع الساخنة

ترى هِسو أن المشكلة باتت جلية خلال عملها في سنغافورة؛ حيث أمكن أن تزيد درجة الحرارة في بعض أجزاء مراكز المناطق الحضرية بسبع درجات مئوية عنها في المناطق المجاورة. وتدير هِسو الآن فريقًا لتحليل البيانات، يعمل على دراسة الحلول المطروحة لمواجهة التغير المناخي، وقد تقصّت بعمق ممارسات العنصرية، التي من شأنها أن تساعد على حصر الفئات الأكثر تعرضًا للحر الشديد في الولايات المتحدة، والأسباب الكامنة وراء معاناتهم هذه.

وتحب هِسو أن تشير إلى أن مدينتها الأم ومسقط رأسها جرينفيل بولاية ساوث كارولينا الأمريكية ليست آمنة بيئيًّا للجميع، إذ وجدت هِسو أن أجزاء المدينة التي تعاني القدر الأكبر من حالات الإجهاد الصحي الناجمة عن الحر أغلب سكانها من السود. وفي واحدة من أوسع الدراسات نطاقًا إلى يومنا هذا في تقصي مدى التباين في التعرض لموجات الحر بين الفئات السكانية في الولايات المتحدة، دمجت هِسو وزملاؤها بين قياسات الأقمار الصناعية لدرجات الحرارة في المناطق الحضرية، وبيانات التعداد السكاني التي تضمنت معلومات ديموجرافية مفصلة حول فئات السكان في 175 مدينة، والمناطق التي تقطن بها تلك الفئات في هذه المدن.

وتقول هِسو إنها توقعت وجود عدم تكافؤ في درجات التعرض للحر بين الفئات السكانية المختلفة، لكنها صُدمت بسبب التفاوُت الهائل في هذه الدرجات. ففي 97% من المدن، كانت المجتمعات الملونة تتعرض في المتوسط لدرجات حرارة أعلى بمقدار درجة مئوية كاملة من المجتمعات التي تتشكل غالبيتها من البيض غير ذوي الأصول اللاتينية. وتقول عن ذلك: "نرى أدلة عامة منتشرة وواسعة النطاق على العنصرية البيئية فيما يتعلق بدرجات التعرض لتأثير الجزر الحرارية الحضرية". وأضافت قائلة: "لم أكن أعتقد أنها ظاهرة عامة في حقيقة الأمر".

ارتبط التعرض لموجات الحر أيضًا بمستوى الدخل؛ فالأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، بغض النظر عن أصولهم العرقية، أو الإثنية، كانوا يتعرضون لدرجات حرارة أعلى من نظرائهم الذين يعيشون فوق خط الفقر.

ومع ذلك، يظل الأصل العرقي العامل الذي يشكل السبب الأكبر وراء عدم التكافؤ بين السكان في التعرض للحر في المناطق الحضرية في الولايات المتحدة. ويعود تاريخ تلك المسألة إلى ما يزيد على قرن ونصف قرن من الزمن. فبعد أن ألغت الولايات المتحدة العبودية في عام 1865، صُمِّمت سياسات الإسكان في جميع أنحاء البلاد لاستبعاد الأشخاص الملونين، ولا سيما السود، بشكل ممنهج من العيش في أحياء معينة من المدن.

وكان أحد المحركات الرئيسة للتبايُن الحالي في تعرُّض الفئات السكانية للحر هو برنامج فيدرالي للموافقة على القروض، أطلقه الكونجرس في عام 1933، وهدِف إلى مساعدة الأشخاص على سداد قروضهم العقارية في أثناء فترة الكساد الكبير. وقد وضعت الشركة المشرفة على منْح القروض خرائط تفصيلية للأحياء في 239 مدينة أمريكية، حيث صنفت الشركة تلك الأحياء بدايةً من الفئة "أ" (التي تشير إلى الأماكن الأكثر أمانًا لاستثمار البنوك فيها)، وانتهاءً بالفئة "د" (التي يُنظَر إليها على أنها الأكثر خطورة للاستثمار). وتحتم تصنيف الأحياء التي ضمت نسبة عالية من مجموعات الأقليات العرقية، أو الإثنية، أو المهاجرين على أنها تندرج تحت الفئة "د". وقد ذُيِّلت هذه التصنيفات في الغالب بتعليقات عنصرية من ممثل الشركة، وحملت علامات باللون الأحمر على خرائط المدن.

وأسفرت هذه الممارسات عن قرارات متعمدة أثَّرت على جميع جوانب الحياة تقريبًا في عديد من المدن الأمريكية، مثل قبول التحاق الطلاب بالمدارس، ودخول المتنزهات، ومرافق عامة أخرى. من هنا، على مدى عدة سنوات مضت، تعاونت المنظمة البيئية غير الربحية "جراوند وورك يو إس إيه" Groundwork USA، التي تتألف من شبكة من الفِرَق المحلية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، مع فِرَق بحثية مختلفة، بهدف قياس قدرة المناطق في تلك الخرائط التي حملت خطوطًا تحذيرية حمراء على مواجهة المخاطر البيئية الحديثة، مثل الحر الشديد، والفيضانات (انظر الشكل: "ضريبة موجات الحر الشديد غير متكافئة"). وتعقيبًا على ذلك، تقول جاسمين باركو، وهي من المعنيين بالتنسيق المجتمعي في مؤسسة "جراوند وورك دينفر" Ground Work Denver بولاية كولورادو الأمريكية: "يمكنك أن تلحظ مدى قلة الاستثمارات المسجَّلة في المناطق المُخطَّطة باللون الأحمر. هذا مروع".

ووفقًا لورقة بحثية واسعة التأثير8، نُشرت في عام 2020 في مجلة "كلايميت" Climate، كانت درجات الحرارة في البقاع التي أشارت إليها الخطوط الحمراء على الخرائط سالفة الذكر في 108 مناطق حضرية بالولايات المتحدة في المتوسط أكثر دفئًا بمقدار 2.6 درجة مئوية، مقارنة بالمناطق غير المشار إليها بخطوط حمراء. ويرجع ذلك إلى الأسطح غير النفَّاذة للحرارة، ونقص ظلال الأشجار في هذه البقاع، لكنْ من المحتمل أيضًا أن يكون ذلك مرتبطًا بسياسات التخطيط العمراني العنصرية، مثل قرارات بناء الطرق السريعة الكبيرة والمباني الصناعية (بكل ما تتضمنه من كتل خرسانية تمتص الحرارة) في مجتمعات ملونة. لذا، يقول فيفيك شانداس، عالِم البيئات الحضرية من جامعة ولاية بورتلاند في أوريجون، وأحد المشاركين في وضع هذه الورقة البحثية: "هذه حالة واضحة من عمليات التخطيط المنهجي، التي أسهمت على مدار أجيال في تهميش بعض المجتمعات".

دوريات لقياس درجات الحرارة

ويَذكر شانداس أنه عندما حصل على رخصة قيادة للمرة الأولى كان شغوفًا لأنْ يجوب بسيارته جميع أنحاء مدينته الأم، لزيارة الجزء الأكبر من المناطق بها. وقد تمَلّكَتْه الدهشة عندما رأى كيف اختلفت درجات الحرارة المعروضة على الشاشات الموجودة خارج البنوك في جميع أنحاء المدينة. ويقول إن ذلك لم يعنِ أن تلك البنوك عانت خللًا في أجهزة قياس درجة الحرارة الخاصة بها، فقد كان كل بنك يعرض درجة الحرارة في بيئته الخاصة، سواء أكان يقع في موقف سيارات شديد الحر، تنعكس من على أسطحه الحرارة، أَم في شارع بارد وارف الظلال.

وفي وقت لاحق، عندما بدأ شانداس أبحاثه في مجال علوم المناخ، وظَّف أشخاصًا للسفر عبر مدن مختلفة، حاملين معهم أجهزة استشعار لدرجة الحرارة، مُثبَّتة في سياراتهم، أو دراجاتهم. واندهش الباحث عندما رأى أن القياسات الواردة من الأحياء السكنية المختلفة كانت واضحة وكاشفة بدرجة كبيرة. ويقول عن ذلك: "راودنا شعور بأننا سنجد اختلافات، لكننا لم نكن نعلم أن تلك الفروق في درجات حرارة الجو ستكون ملموسة بهذا الوضوح والانتشار".

وقد شهدت مشروعات وضع خرائط لدرجات الحرارة باستخدام التعهيد الجماعي توسعًا على مدار السنوات القليلة الماضية. وعلى سبيل المثال، من المزمع أن تطْلِق الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي حملة خلال هذا الصيف – يعمل شانداس استشاريًّا بها - بهدف رسم خرائط للجزر الحرارية الحضرية في عدة مدن تنتمي إلى 11 ولاية.

وفي أيام القيظ الشديد، من المزمع أن يجوب المتطوعون في الحملة شوارع المدن بسياراتهم ودراجاتهم، بدءًا من الصباح الباكر. ومن خلال إنشاء ملف تعريفي بدرجات الحرارة والرطوبة في جميع أنحاء المدن على امتداد اليوم، يعتزم الباحثون جمْع بيانات، لمساعدتهم على اكتشاف الأحياء الأشد حرًّا. ويمكنهم بعد ذلك دمج هذه البيانات مع قياسات الأقمار الصناعية للتنبؤ بالأحياء السكنية المحتمَل أن تكون أكثر عرضة للخطر مع تحرُّك كتل الهواء الساخن فوق المدن.

يحلم شانداس بأن يضع في نهاية المطاف خريطة لدرجات حرارة الهواء في جميع أنحاء المناطق الحضرية بالولايات المتحدة. ويرى أنه باستخدام مثل هذه التنبؤات الدقيقة لدرجات الحرارة، يمكن للمسؤولين الرسميين التخطيط بشكل أفضل للأماكن التي من الممكن أن ينشروا فيها موارد لمحاربة الظروف المناخية القاسية.

أفكار مذهلة للتبريد

يلجأ مسؤولو تخطيط المدن في جميع أنحاء العالم إلى أساليب عديدة، في محاولة للتغلب على الحر. يتمثل أحدها في إبقاء الأماكن العامة، مثل الحدائق أو المراكز المجتمعية مكيفة الهواء ومفتوحة لساعات طويلة في أثناء الموجات الحارة؛ وهو ما يوفر متنفسًا للأشخاص الذين يعانون من شدة الحر في بيوتهم. كذلك يمكن إنقاذ الأرواح من خلال التوعية بموجات الحر الشديد وشيكة الحدوث، مثل إرسال الرسائل النصية لتحذير الأشخاص بشكل مسبق من موجات الحر، أو عرض قراءات درجات الحرارة على لوحات إلكترونية في جميع أنحاء المدينة.

وقد تبَنَّى مسؤولون في مدينة أحمد آباد الهندية خطة عمل رائدة لمواجهة موجات الحر هناك، بعد أن ضربت المدينة موجةٌ حارة في عام 2010 أسفرت عن مقتل أكثر من 1300 شخص. وتتضمن الاستراتيجية التي وضعوها نشر التحذيرات العامة، وغير ذلك من مصادر البيانات في ذلك الصدد عندما تشير تنبؤات الطقس إلى أن درجة الحرارة من المتوقع أن تتجاوز 41 درجة مئوية. وفي السنوات التي أعقبت تنفيذ خطة العمل تلك، نجحت هذه الاستراتيجية في إنقاذ حياة 1190 شخصًا سنويًّا في المتوسط9.

وتوجِّه بعض المدن جهود تخفيف آثار موجات الحر، لتنصَبّ على المجتمعات الأكثر عرضة لمخاطر تلك الموجات. وحول ذلك، يقول كيرت شيكمان، المدير التنفيذي للتحالف العالمي لتبريد المدن في العاصمة الأمريكية واشنطن: "ثمة اهتمام متزايد بالتأكد من أن فئات السكان الأكثر تعرضًا للتهميش والإقصاء ولمخاطر موجات الحر هم محور الكثير من هذه الجهود". وعلى سبيل المثال، استخدمت دراسة10أُجريت في ديربان بجنوب أفريقيا في أواخر العام الماضي التنبؤات الخاصة بالتغير المناخي في المستقبل لحساب أي المناطق سوف تكون الأكثر عرضة لوقوع حالات الإجهاد الناجم عن الحر مستقبلًا فيها. كما تضمنت الدراسة أيضًا بيانات عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية، بهدف تحديد الأحياء المعرَّضة لمخاطر الحر، التي يجب أن تستهدفها مشروعات التكيف مع الاحترار.

وفي فرنسا، تدير مدينة باريس برنامج "واحات"، الذي يهدف إلى تحويل ساحات المدارس العامة إلى أماكن باردة، لا سيما في ضواحي المدينة التي تتميز بأنها أكثر تنوعًا من حيث فئاتها العرقية والإثنية. وفي الولايات المتحدة، تقدِّم مدن عديدة مساعدات مالية للسكان، للمساعدة في تحمُّل فواتير الكهرباء صيفًا، عندما تكون تكاليف تشغيل أجهزة تكييف الهواء مرتفعة للغاية إلى حد لا يستطيع الأفراد تحَمُّله.

ويمكن لتأثير المبادرات الصغيرة في كثير من الأحيان أن يفوق نطاقه المحدود. وعلى سبيل المثال، بالنظر إلى أن العزلة الاجتماعية تعزز خطر وفاة الأشخاص في أثناء موجات الحر، تشجع مدينة نيويورك على بناء شبكة أصدقاء، يتواصل من خلالها سكان المدينة مع أصدقائهم وأفراد عائلاتهم في الأيام الحارة. وفي هذا الصيف في مدينة فينيكس، وهي المدينة الأشد حرًّا من بين كبرى المدن في الولايات المتحدة، يُزمع أن يجرب باحثون من جامعة ولاية أريزونا جهاز استشعار لقياس درجات الحرارة داخل المنازل، قادر على أن يرسل رسالة نصية إلى صديق أو إلى فرد من العائلة، إذا ارتفعت درجة الحرارة داخل المنزل ارتفاعًا كبيرًا.

وقد تُدخل تغييرات بسيطة أخرى على المدن، مثل إنشاء مَعْبَر للمشاة، بحيث يتمكن الأشخاص من الوصول بسهولة إلى الجانب المُظلَّل من الشارع. وفي ذلك الصدد، يقول ديفيد هوندولا، عالِم المناخ من جامعة ولاية أريزونا، إن مثل هذه الإجراءات المباشرة نسبيًّا يمكن أن يسهم في تخفيف الإجهاد الناجم عن الحر الذي يتعرض له كثير من الأشخاص، ويضيف قائلًا: "ما شجعني حقًّا هو الآفاق التي قد نطرقها في غضون فترة السنوات الخمس إلى العشر القادمة".

وفي مدينة لوس أنجيليس، قدَّر الباحثون أن اثنين من التدخلات الإصلاحية الأساسية – ألا وهما زراعة الأشجار، وطلاء الأسقف باللون الأبيض – أمكن أن يحولا دون وقوع ما لا يقل عن ربع عدد الوفيات التي تُعزى إلى موجات الحر التي وقعت مؤخرًا11. وتقول إيديث دي جوزمان، مديرة المشروع التعاوني لتبريد المناطق الحضرية في لوس أنجيليس، إنه على غرار الحال في مدن أخرى، فقد حدثت تلك الوفيات بصورة أكبر في المجتمعات الملونة. بيد أن الجواب لا يتمثل في غرس الأشجار في المناطق التي تعاني العوز بالمدينة فحسب، فكما تقول دي جوزمان، ثمة احتياج إلى اختيار هذه الأشجار بعناية وحرص، ليس فقط بناءً على قدرتها على تحَمُّل الحرارة، وإنما أيضًا بناءً على مقدار الظل الذي يوفره نوعها.

لم تُحَقِّق لوس أنجيليس بعد هدفها الطَّموح الرامي إلى زراعة مليون شجرة، الذي أعلنه عمدة المدينة في عام 2006، بيد أن رودريجيز يسهم في ذلك حاليًّا من منزله الواقع في وادي سان فرناندو، المعروف بحرارته الشديدة. فأغلب الحي الذي يقطن به رودريجيز تشكله عدة منازل عائلية تعود إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، بُنيت لإيواء قدامى المحاربين بعد الحرب العالمية الثانية، وقد صار الحي حاليًّا أكثر تنوعًا من حيث الفئات العرقية والإثنية التي تسكنه.

ومن المؤسف أن أشجارًا كثيرة من الصمغ الحلو، التي كانت مزروعة في الأصل على امتداد الشارع الذي يقيم فيه رودريجيز، قد تساقطت، أو ماتت. ولم يزرع رودريجيز شجرة التين المفضلة لديه فحسب، بل زرع أيضًا أشجار الجوافة، والرمان، والبرقوق. وتصطف الأشجار الأربع بجوار بعضها بعضًا أمام منزله، ويومًا ما سوف تتسع مساحة الظل الذي تمنحه تلك الأشجار، وتُمَثِّل هذه الأشجار جزءًا من خطة رودريجيز لتوفير جو منعش لأفراد عائلته في مستقبل أشد حرارة.

اضف تعليق