إنّ الشعبوية في ارتباطها بالحقوق الفردية وليس في نكرانها لهذه الحقوق، هي ما يسميّه معظم الناس بـ الديموقراطية الليبرالية، ومع ذلك يشير اصطلاح الشعبوية الاقتصادية، كما يستخدمه معظم الاقتصاديين ضمناً، الى ديموقراطية تفتقر الى حدٍّ كبير الى الحقوق الفردية، سوف تؤدي الديموقراطية المُطلقة.. الى الطُغيان.
ينظر الزعماء الشعبويّون للشعبوية الاقتصادية بعدّها "ردٌّ من الشعب الذي جرى افقارَهُ، على المجتمع المُقصِّر بحق هذا الشعب". وهذا المجتمع "المُقَصِّر" يتميز بوجود نخبة اقتصادية تمارس القمع، وتعمل على استغلال سلطة الحكومة لزيادة ثرواتها، وبما يؤدي الى تفشّي الفقر المدقع جنباً الى جنب مع الوفرة الاقتصادية.
وفي ظل الشعبوية الاقتصادية تخضع الحكومة لمطالب الشعب، مع قليل من الاهتمام بالحقوق الفردية، أو بخصوصيات وظروف الواقع الاقتصادي التي تتحكّم بالكيفية التي تتم بها زيادة ثروة البلاد، أو حتى الحفاظ عليها.
بعبارة أخرى سيكون هناك تجاهل تام للنتائج الاقتصادية العكسية للسياسات،عمداً، أو بدون قصد.
تسعى الشعبوية الاقتصادية الى الاصلاح، وليس الى الثورة. وموقف ممارسيها واضح بشأن المظالم الواجب معالجتها. غير أن وصفات العلاج الشعبوية تتسّم بالغموض. فعلى عكس الرأسمالية أوالاشتراكية لا تقدّم الشعبوية الاقتصادية تحليلاً مُحدّداً للشروط الواجب توافرها لخلق الثروة، ورفع مستوى المعيشة. كما أنّ الشعبوية ليست وليدة فكرة، بل هي في المقام الأوّل رد فعل عاطفي، أو هي بالأحرى صرخة ألم، اذ يقدّم الزعماء الشعبويون وعوداً لا لبس فيها لعلاج المظالم المُتَخَيّلة، واعادة توزيع الأراضي، ومحاكمة النخب الفاسدة التي سرقت الفقراء، ويعدّون ذلك علاجاً شائعاً لجميع الأمراض.
وتتخيّل الشعبوية الاقتصادية عالماً أكثر استقامة، ومبادؤها بسيطة، وأطارها المفاهيمي بسيطٌ أيضاً. فاذا كانت هناك بطالة، يجب على الحكومة توظيف العاطلين. واذا كان النقد شحيحاً في الاقتصاد، واسعار الفائدة مرتفعة نتيجة لذلك، يجب على الحكومة وضع حد أعلى لأسعار الفائدة، او طبع المزيد من النقود. واذا كانت السلع المستوردة تهدد فرص العمل، سوف تقوم الحكومة بوقف الاستيراد.
ولكي تجتذب الشعبوية الأتباعَ، ولكونها تعاني من افتقارها الى سياسات اقتصادية ذات سمات واضحة، فإنها تضطّر الى ادّعاء تبرير اخلاقي ما. وبناءً على ذلك يجب أن يتمتَع الزعماء الشعبويّون بـ "كاريزما" ذات تاثير كبيرٍ على الأتباع، وأن تبدو عليهم دائماً هالة تَحَمُّل المسؤولية، بل وأيضاً القدرة على ممارسة الاستبداد.
ويأتي العديد من هؤلاء القادة الشعبويّون، وربما معظمهم، من الجيش. وهم لا يُبرّرونَ التفوق المفاهيمي للشعبوية على الأسواق الحرّة على نحوٍ فعّال. كما أنّهم لا يؤمنون بالنزعة الشكلية الفكرية الخاصة بماركس، ورسالتهم الاقتصادية تقوم على خطابٍ بسيط، مُتَبّل ببعض الكلمات من قبيل "الاستغلال" و "العدالة" و "الاصلاح الزراعي"، وليس "الناتج القومي الاجمالي" أو " الانتاجية".
تقدّم الشعبوية الاقتصادية وعوداً كبيرة، بدون أن تأخذ بنظر الاعتبار كيفية الايفاء بها من الناحية المالية. وفي كثير من الأحيان يؤدي الاصرار على الايفاء ببعض هذه الوعود الى نقص في التمويل بسبب تراجع العائدات، اضافةً الى صعوبة، أو استحالة، الاقتراض من القطاع الخاص أو من المستثمرين الاجانب. ويؤدي هذا في الغالب الى اعتماد يائس على بنك مركزي يقوم بدور الصرّاف. ومع تزايد مطالبة البنك المركزي بطبع المزيد من النقود لزيادة القدرة الشرائية للحكومة، يتم اطلاق العنان لموجة من التضخم الجامح الذي لا يمكن السيطرة عليه، أو التحكّم باتجاهاته وتأثيراته. وكانت النتيجة على مرّ التاريخ هي الاطاحة بالحكومات، والحاق اضرار كبيرة وشديدة وعميقة بالاستقرار المجتمعي. وهذا النمط من النتائج الكارئية للشعبوية الاقتصادية كان قد تجسّد في وقائع تاريخية محددة، منها (على سبيل المثال لا الحصر) التضخم الجامح في البرازيل (1994)، والارجنتين (1989)، والمكسيك في منتصف الثمانينيات، وشيلي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وكان تأثير ذلك مُدَمّراً على مجتمعات تلك البلدان.
ويُفتَرض بالشعبوية الاقتصادية أن تكون مدّاً للديموقراطية الى الاقتصاد، ولكنها ليست كذلك.
فالديموقراطية عملية تتسم بعدم الترتيب، ومن المؤكّد أنّها ليست، وباستمرار، الشكل الأكثركفاءة للحكم. ومع ذلك فنحنُ نتفّق مع ونستون تشرشل في قوله "أنّ الديموقراطية هي أسوأ شكلٍ للحكم، اذا استثنينا تلك الأشكال الأخرى كلها، التي تجري تجربتها من حينٍ لآخر". وشئنا ام أبينا فليس أمامنا من خيار، إلاّ افتراض أنّ الأشخاص الذين يعملونَ بحريّة، سوف يتخّذون في نهاية الأمر القرارات الصحيحة بشأن كيفية حكم أنفسهم. فإذا اتخذت الأغلبية قرارات خاطئة، ستكون هناك عواقب عكسية، بل قد يصل الأمر الى الفوضى المجتمعية في نهاية المطاف.
إنّ الشعبوية في ارتباطها بالحقوق الفردية (وليس في نكرانها لهذه الحقوق)، هي ما يسميّه معظم الناس بـ "الديموقراطية الليبرالية". ومع ذلك يشير اصطلاح "الشعبوية الاقتصادية"، (كما يستخدمه معظم الاقتصاديين ضمناً)، الى ديموقراطية تفتقر الى حدٍّ كبير الى "الحقوق الفردية". فعندما يُمكن لواحدٍ وخمسين بالمائة من الناس تجاهل حقوق التسعة والأربعين بالمائة المتبقيّة بشكل قانوني، سوف تؤدي الديموقراطية المُطلقة.. الى الطُغيان.
اضف تعليق