لأكثر من عقدين لم يفهم الساسة في العراق قواعد "لُعبة الأمم"، ولم يستوعِبوا أهمية و دور ووظيفة الاقتصاد في بناء ودعم وتعزيز السيادة الوطنية، والمكانة الدوليّة، وفي ترسيخ منهج الدولة على جميع الصُعُد، وهكذا ضاعَ على العراق والعراقيين عقدان من عقود التنمية الشاملةِ والمستدامة. لماذا؟...

لأكثر من عقدين لم يفهم "الساسة" في العراق قواعد "لُعبة الأمم"، ولم يستوعِبوا أهمية و دور ووظيفة الاقتصاد في بناء ودعم وتعزيز السيادة الوطنية، والمكانة الدوليّة، وفي ترسيخ منهج الدولة على جميع الصُعُد، وهكذا ضاعَ على العراق والعراقيين عقدان من عقود التنمية الشاملةِ والمستدامة.

لماذا؟

لأنّ "السياسيّون" لدينا، لا يجيدونَ شيئاً غير صُنعِ السياسةِ على مزاجهم، و"تلفيق" الديموقراطيّة الخاصّة بهم، وإغراق المواطن بالتباسات الأيديولوجيا والعقيدة والمذهب والطائفة والدين. سياسيّو الحُكم والتحكّم لدينا يفهمونَ السياسة ويُفسِرّون دوافعها على هواهم.. ولا يعرفونَ ما هو الاقتصاد السياسي.

السياسيّونَ في العراق ينغمِسونَ في شؤون الدينِ والعقيدة.. ولا يُوظّفون ذلك للحثِّ على العمل، وتنويع مصادر الدخل، ورفع مستوى الرفاهيّة (العامة والشخصيّة).

السياسيون في العراق لا شأن لهم بالاقتصاد، ولا يفهمون آليات عمل القوانين الاقتصادية، ويتجاهلونَ النصائح، ويطلبونَ المشورةَ كـ "تَسقيطِ فرض"، ولا يأخذونَ بها فعلاَ، وبذلك فهم يُحوِّلونَ الكثيرَ من أساتذة وخبراء ومستشاري الاقتصاد إلى مجرّد "ديكورات مكتبيّة" للحكومات.

السياسيّون في العراق ليس بوسعهم إدراك أثر ونتائج قراراتهم وسياساتهم الخرقاء على الاقتصاد والمجتمع في الأجل الطويل، لأنّهم في كُلّ ما يتعلّق بالاقتصاد، والسياسة الاقتصاديّة، "سادة" الأجل القصير فقط.. ولكونهم "مُنفَصِلون" عن الواقع في كلّ ما يتعلَق بالشأن الاقتصادي، فإنّهم يتحدثون دونَ حرَجٍ عن "عراقٍ غنيّ"، و"عراقٍ مُستقِّر" و "عراقٍ جاذبٍ للاستثمار" و"عراقٍ يتطوّر" و"عراقٍ قويّ اقتصاديّاً".. وذلك على الرغم من أنّ جميع "المؤشّرات" و"المُعطيات" تشيرُ إلى عكس ذلك.. وكما يأتي:

- العراق ضعيف اقتصاديّاً، ليس بسبب ضعف الموارد والقدرات، بل بسبب ضعف الادارة الاقتصادية وتخلّفها، وانعدام الكفاءة في تخصيص واستخدام الموارد الاقتصادية.

- العراق ضعيف اقتصاديّا، ويزدادُ ضعفاً يوماً بعد آخر، لأنّهُ لا يتمكّن من الإيفاء باحتياجاته الأساسيّة لأسبوعٍ واحدٍ دون استيرادات.. ولأنّهُ لا يتحكّمُ بالعائدات الدولاريّة لصادراته النفطيّة، ولأنّهُ لا يستطيع تسويةَ حساباته والتزاماته لثلاثةِ أيّامٍ دون دولار.. ولأنّهُ غادَرَ الزراعةَ والصناعةَ والسياحة، وأنشغلَ بالتوظيف العام، وبتوليد أجيال لا تفهم ما هو العمل، وما هي الانتاجيّة، وأغرقَ السوقَ بحاملي شهادات تفتقر إلى المهارة والمضمون العلميّ.

- العراق ضعيف اقتصاديّاً لأنّ "الشعبويّة السياسيّة" كَبّلت الاقتصاد بالتزامات واستحقاقات و"مُنجَزات" مُجتمعيّة غزيرة التبديد، وقايضت الريع النفطي بالصوت الانتخابي، وأسرفت في الانفاقِ بلا عائد من خلال موازنات تشغيليّة عقيمة.

إذا كان "النظام الاقتصادي" يعاني من الضعفِ والاختلالِ، ومن التباس الدور الناتجِ عن ضبابيّة "التوصيف" (نظام "هجين" يتخبّط و "يتشرذم" بين الاشتراكية والرأسمالية).. فإنّ "النظام السياسي" وبالضرورة، سيكونُ أضعفُ منهُ بدرجات، إن لم يكُن آيلاً للسقوط.

إذا كان "النظام الاقتصادي" يعاني من الضعفِ والاختلالِ، فلا معنى للحديثِ عن "السيادة"، ولا عن "النصر"، لأنّ جميع "المعارك" (مهما كانت عدالة القضية التي تُخاضُ من أجلها) ستُفضي إلى هزائمَ مُنكَرَة وثقيلة وباهظة الكُلفة، وستنتهي بالخذلان.

لا نقولُ ذلك من باب "جَلد الذات"، ولا بهدف "المُعارَضة" للنظام السياسي في العراق.. فنحنُ لسنا "مُعارِضين سياسيّين".

نحنُ (أي أنا وامثالي من المُختصّين والمُهتمّينَ بالشأن الاقتصادي) نُريد فِهمَ الوضع الاقتصادي للعراق في سياقه الواقعي.. فقط، لا غير.. ومن ثمَّ السماح لنا بمشاركةٍ "فاعلة"، وبممارسة دور "حقيقي" في صنع السياسات التي تساعد على اجتراح الحلول.. لأنّ البيانات تقول لنا أنّ:

- الاستيرادات السنويّة 75 مليار دولار.

-الدين الخارجي 20 مليار دولار.

- الدين الداخلي 81 ترليون دينار.

- مساهمة نسبية للصناعة والزراعة في الناتج المحلي الإجمالي لا تزيد عن 8% في أفضل الأحوال.

- أعداد الذين يتقاضونَ أجراً أو راتباً شهريّا من الحكومة(موظفين ومتقاعدين ورعاية اجتماعية) هي في حدود 9 مليون شخص، باستحقاقِ قدره 91 ترليون دينار سنويّا.

بعد كُلّ هذا "العبث" بالماليّة العامة، يتحدّث السياسيّون في العراق عن "الإصلاح".

هذه "الالتزامات" التي كبّل السياسيّونَ الاقتصادَ بها، تُصادِرُ المرونةَ المطلوبة لتحقيق الإصلاح الاقتصادي المنشود.

والآن.. ونحنُ على أعتابٍ عامٍ جديد، هل سنسمح بإضاعة رُبع قرنٍ آخر؟

اذا فعلنا ذلك، فإنّ هذا سيعني تخلّفنا اقتصاديّا (وحضاريّا) بمائةٍ عامٍ عن دولٍ "ناميةٍ" أخرى.

دولٌ ناميةٌ أخرى، لم تكن لتجرؤ على مقارنة حالها بحال العراق، قبل أكثر من نصفِ قرنٍ من الآن.

اضف تعليق