في زيارةِ عملٍ لكوريا الجنوبية قبل سنوات، عرَضَ علينا المسؤولونَ هناك نموذجاً لمشروعِ "تصفية مياه" يعمل على تنقية مياه البحر وإنتاج الطاقة الكهربائية في ذات الوقت، ولا تتجاوز كلفته مليار دولار.. وحين سألناهم: ألم يعرِض عليكم العراقَ شراءَ شيءٍ كهذا.. لم يُجيبوا.. وأكتفوا بابتسامةٍ كوريّةٍ باهتة...
هل ترغبونَ بالحصول على "دليل" يفضح فشل الحكومات العراقية المُتعاقِبة، واستخفافها بحياة العراقيين، بغضّ النظر عن طبيعة وخصائص"النظام السياسي"؟ اليكم "الدليل": ماء البصرة غير الصالِح لا للشُربِ (الآدميِّ وغير الآدميِّ)، ولا للريِّ، ولا لأيّةِ أغراضٍ أخرى.
البصرة.. العاصمة الاقتصادية للعراق، وميناءها الوحيد على "البحر"، و"مُرضِعَة" الموازنة العامة للدولة بالجزء الأكبر من إيراداتها، وصاحبة الحصّة الأكبر في توليد "الدخل القومي" والناتج المحلي الإجمالي للعراق، و"الأُمّ" التي ترعى "أطفال" غيرها، وتؤثِرُهُم على بنيها وبناتها وشيوخها وعجائزها، دونَ صَخَبٍ أو مِنّة. البصرةُ العطشى التي تتنفّسُ السَخامَ، وتتعفّنُ في السَبَخ.
في عام 1980 ذهبتُ إلى البصرة لأوِّل مَرّة، جُنديّاً "احتياطا" خلال الحرب العراقيّة الإيرانيّة. أوّلُ شيءٍ لفَتَ انتباه الجنود القادمينَ اليها من محافظات أخرى هو صعوبة شُربِ ماءها "المَجِّ"- المالِح مُقارنةً بالماء "العَذب" الذي كانوا يشربونهُ في محافظاتهم.. أمّا عدم ظهور رغوة للصابون عند الاستحمام، فقد كان واحداً من أهمّ "عجائبِ" ماء البصرة يومذاك.
كان شطّ العرب يومها طافحاً بغزارة الماءِ العَذبِ القادمِ اليه من دجلة والفرات.. ومع ذلك كان الماء الذي يشربهُ البصريّونَ.. مالِحاً جدّاً.
46 عاماً منذُ ذلكَ الحين.. ولم يتغيّر الحال.. بل ازدادَ سوءاً وسَبَخاً و تلوُّثاً ومُلوحة.
46 عاماً لم تكن كافية لتشربَ البصرة ماءً صالحاً للشرب.
46 عاما (منها 23 للنظام "السابق"، و23 عاماً للنظام "الجديد").. ولم يتغيّر شيء.
23 عاماً كانت كافية لأن يتحوّلَ ماء البصرة إلى ماءٍ "احفوريّ" مثل نفطها تماماً.
في زيارةِ عملٍ لكوريا الجنوبية قبل سنوات، عرَضَ علينا المسؤولونَ هناك نموذجاً لمشروعِ "تصفية مياه" يعمل على تنقية مياه البحر وإنتاج الطاقة الكهربائية في ذات الوقت، ولا تتجاوز كلفته مليار دولار.. وحين سألناهم: ألم يعرِض عليكم العراقَ شراءَ شيءٍ كهذا.. لم يُجيبوا.. وأكتفوا بابتسامةٍ كوريّةٍ باهتة.
"الدولة" التي لا تستطيع (طيلة 23 عاماً) توفيرَ ماءٍ صالحٍ للشرب لأهم مُحافظة فيها(ماليّاً واقتصاديّاً)، وثاني أكبر مُحافظة فيها من حيث عدد السكان.. ليست دولة.
والحكومات التي تعاقبَت على تسَنُّمِ زمامِ الإدارة خلال هذه المدة.. ليست حكومات.. وإن كان علينا أن نَعُدّها حكومات(سواءَ أكانت محليّةً أو اتّحاديّة) فهي حكومات فاشلة بامتياز، ومع سيق الإصرار والترَصُّد.
جسورٌ يتمُّ تشييدها لفكّ الاختناقات المروريّة في بغداد (خلال ثلاث سنواتٍ فقط) تُعَد "انجازاً"، و"اعمارٌ" في البصرة خلال سنوات قليلة يُعَد "انجازاً".. نعم.. لِمَ لا.. لا بأس.. ولكنَّ الحَدّ (مُجرّد الحَدّ) من "عَطَش" البصرة طيلة 23 عاماً، و تقليل مستوى سَخامَها وتلوّثها، والوقاية من الإصابة بمختلف أنواع "السَرطان" فيها، لا يستحِّقُّ أن يكون كذلك.
جميع هذه "الإنجازات" العُمرانية (في بغداد كما في البصرة) ستبقى إنجازات "مَظهريّة" بغيابِ الماءِ الصالحِ للاستخدامِ الآدميّ.
بعد 23 عاماً.. لم تَعُد البصرة فقط، بل بغداد وغيرها من المحافظات أيضاً.. تشربُ من الحنفيّاتِ "الحكوميّةِ" ماءً غير صالح للاستخدامِ الآدميّ.
ضَعوا "فلتراً" تحتَ الحنفية، وسترون بالعين المُجرَدّة العَجَبَ العِجاب.. حتّى أنّ بيوض الديناصورات عادت لتفقسَ فيها بكُل "أريحيّة" بعد مُضيّ أكثر من 11.11 مليون عام على انقراضها !!



اضف تعليق