يجب أن يقوم بناء السياسات الاقتصادية النقدية والمالية والتجارية على استشراف دقيق للأزمات والتحوّلات والمتغيرات الإقليمية والدولية، والاستعداد المُسبَق لتداعياتها، وليس انتظار أن يحدُث كُلّ ذلك وهو سيحدثُ حتماً لكي "تجفَل" الإدارة الاقتصاديّة في العراق، وتتخبّطَ في ردود أفعالٍ عاطفيّةٍ – شعبويّة غير مدروسةٍ عليها...

على "صُنّاع" السياسات الاقتصاديّة" في العراق أن يكونوا حذرين، وحذرينَ جدّاً في الادّعاء، أو التصريح، بأنّ سياساتهم، و"ترتيباتهم"، واجراءاتهم "الآنية"، هي التي كانت السبب الرئيس في تقليص الفارق بين السعرين الرسمي والموازي للدولار في العراق.

كما أنّ عليهم أن لا يختَزِلوا "النجاح" الاقتصادي الذي يُفتَرَض أن يكون "مُتعَدِّد الأبعاد"، في مُفردة واحدة، أو "مؤشِّر" واحد هو "انخفاض" قيمة الدولار مقابل الدينار في السوق الموازي.

لقد كان لهذه "الإجراءات" بالطبع دورٌ في "تعافي" قيمة الدينار مقابل الدولار (وهذا شيءٌ جيّدٌ قطعاً)، لكنّ هذا الدور يبقى "ثانويّاً".. ذلك أنّ لا "دولارات المسافرين"، ولا "دولارات الحجّاج"، ولا "السياسات الجديدة" للتحويل الخارجي، ولا وسائل "الامتثال المصرفي" غير المباشر، ولا عزوف صغار التجّار عن التعامل مع السوق الموازي لتمويل استيراداتهم "الصغيرة" كان لها الدور الرئيس في ذلك.

إنّ عوامل أخرى كثيرة، داخلية وخارجية، ومُعقَدّة ومُتداخِلة، هي التي قامت بالدور الرئيس، وأنّ هذا "التعافي" لا يعود إلى مهارة "صُنّاع" السياسات في هذا البلد، ولا إلى منهجية "التجربة والخطأ" التي كانوا بارعينَ في استخدامها لأكثر من عشرينَ عاماً، والتي كلّفت الاقتصاد العراقي الكثيرَ والكثير من الكُلف الباهظة في جميع المجالات.

ومن بين هذه العوامل: الركود الاقتصادي العام، والتراجع الحاد في سوق العقار(وهما من الآثار السلبية لإجراء ات تفتقر إلى دراسة الأثر الأخير للسياسة)، وانخفاض الانفاق الاستهلاكي والاستثماري (الخاص والعام)، وانكماش الاستيرادات (بسبب الكساد الحالي من جهة، والتوقعات المستقبلية المتشائمة من جهة أخرى)، وإعاقة تحويلات دولارية كبيرة إلى الخارج، و"تُخمة" المَحافِظ الدولارية- "الاستثمارية" في دول المُتاجَرة الرئيسة مع العراق، وأخيراً (وإلى حدٍّ ما) ذلك الأثر المُترتّب على ما يُسمّى بظاهرة "الدولار الراجع" إلى العراق ودورها في زيادة عرض الدولار وزيادة الطلب على الدينار في السوق.*

يُضافُ إلى كُلّ ذلك لجوء الأفراد إلى الذهب بدل الدولار كمخزن للقيمة، وشيوع حالة من عدم اليقين بصدد طبيعة العلاقة المُستقبلية بين جمهورية ايران الإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية، وما ينطوي عليه ذلك من تأثير مباشر على انخفاض تمويل التجارة بينها وبين العراق حاليّاً بانتظار ما سوف يحدث لاحقاً (ذلكَ أنّ الصادرات السلعية السنوية الايرانية الى العراق لعام 2024 هي في حدود 13 مليار دولار، وأنّ السقف المستهدف ايرانياً لهذه الصادرات يبلغ 20 مليار دولار، وهو ما يشكل نحو 20 إلى 23 %؜ من دخل ايران غير النفطي).

ومع أن الفجوة ما بين السعر الرسمي والسعر الموازي للدولار في السوق ما تزال أكثر من 7.5%، إلاّ إنّ هذا التحسّن يبقى مؤقتاً ومحدوداً لأنّهُ لا يعكس تحسناً هيكلياً في مرتكزات الاقتصاد الأساسية ومتغيراته الكليّة الرئيسة.. فقد تراجع فائض الحساب الجاري، وتمّ استنزاف الاحتياطيات الاجنبية، وارتفع الدين العام الداخلي إلى مستويات غير مسبوقة(88 ترليون دينار)، وانخفضَ عرض النقد بما لا يتناسب وحاجات الاقتصاد إلى "السيولة"( انخفض عرض النقد في الاقتصاد من 102 ترليون دينار إلى أقلّ من 98 ترليون دينار خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 )، كما لم تتمكن الحكومة الى الآن (ونحنُ في منتصف السنة المالية، وبما يشكّل مخالفة صريحة لقانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019) من ارسال جداول الموازنة العامة إلى مجلس النواب (بحيث لم تعُد للموازنة العامة للسنة المالية 2025 أيّةُ قيمة).. وهذه كلها ضغوط قد تدفع بسعر(أو قيمة) الدينار مقابل الدولار مجدداً نحو الهبوط إذا لم تتُم معالجة هذه الاختلالات "الإجرائيّة" والبنيوية.

كما أنّ الارتفاع الهائل في النفقات العامة (وبالذات الحاكمة منها)، والعجز الكبير في الموازنة العامة للدولة، وعدم انضباط المالية العامّة، ستبقى من بين الأسباب الرئيسة التي تحدّ من قدرة السياسة النقدية على ضبط السوق والاقتصاد.

هذا يعني أنّ "الاحتفال" بارتفاع سعر الدينار مقابل الدولار قد يُخفي مؤقتاً عمق الأزمة، لكنه لا يلغيها.

بل أنّ العراق، وتحت وطأة هذه الضغوط (التي سيضاف اليها حتماً انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية) قد يضطّر لاحِقاً(وبأسرع مما نتوقّع) إلى تخفيض سعر صرف الدينار مقابل الدولار إلى مستوى غير مسبوق منذ العام 2003 (يُقدّرهُ بعض الخبراء بـ 2000 دينار عراقي مقابل الدولار الأمريكي الواحد في عام 2026، لأنّ لا أحد سوف يجرؤ على تخفيض قيمة الدينار مقابل الدولار في سنة الانتخابات البرلمانية).

إنّ "مقايضة" الكساد بارتفاع قيمة الدولار مقابل الدينار في السوق الموازي ليست سياسة ناجحة، ولا خياراً منطقيّاً، وهي لا تصبُّ في صالح الاقتصاد العراقي، لأنّ هذا الاقتصاد مُختَلّ هيكليّا، وضعيف، ويفتقِر إلى التنوّع، ويعتمِد بدرجة أساسيّة وحاسمة على إيرادات الصادرات النفطية التي يشير خطّ اتجاهها العام إلى الانخفاض شهراً بعد آخر( حيث انخفضت الإيرادات النفطية بين آذار ونيسان 2025 بمقدار مليار دولار شهرياً، وبلغت الإيرادات النفطية في نيسان 6.7 مليار دولار، وهو ايراد يكفي بالكاد لتغطية الرواتب ونفقات جولات التراخيص، فقط لا غير).

الشيء الآخر المهمّ (والسلبي) في ادّعاء النجاح واحتكارهِ "المؤسّسي" هو في ارتداد أيّ تراجعٍ في سعر الدينار مقابل الدولار على المؤسسات ذات العلاقة بذلك. فإذا كانت هذه "المؤسسات" هي من تقف بدرجة رئيسة وراء هذا التحسنّ "الحالي" في سعر الدينار مقابل الدولار في السوق، فإنّ أيّ تراجع لاحِق في سعر الدينار مقابل الدولار سيقعُ على عاتقها، وستتحمّلُ هي، وليس غيرها من دوائر صُنع القرار، مسؤوليتهَ الرئيسة.

حينها سيكونُ من الصعب على هذه المؤسسات (أو التشكيلات الاقتصادية) تقديم تبرير مُقنِع لهذه التراجُع، لأنّهُ سيكونُ بمثابة فشلٍ ذريع لها في الحفاظِ على ما تمّ تحقيقهُ من قبلها وعدّهُ "انجازاً" بهذا الصدد، وستكونُ عواقبُ لك وخيمةٌ عليها، وعلى الاقتصاد، بل و وخيمةٌ جدّاً.

لنكُن حذرين ومُتحفّظين في تعاملنا مع المتغيرات الاقتصادية(الكليّةُ منها بالذات)، ومن اعلانِ "النصرِ" الحاسم على تقلبّاتها السريعة والمستمرّة، لأنّهُ سيكونُ من الصعب علينا (ومنَ المُحرِجِ لنا لاحِقاً) أن يتحوّل هذا النجاح "الاستعراضيّ" الآني، إلى فشلٍ "حقيقيّ" مُستدام، غيرُ قابلٍ للتبريرِ المنطقيّ.

إنّ هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الداخلية، المُرتَبِكة والمُلتبِسة، (المتزامنة بدورها مع بيئة اقتصادية وسياسية دولية قَلِقة وغير مُستقِرّة) تتطلّبُ بناءً للسياسات يقوم على وفق مباديء ومنهجيات ومقاربات صارمة، يتمّ من خلالها انجاز حساب اقتصادي سليمٍ ورصين للكلف والعوائد (الاقتصادية والمجتمعيّة) في الأجل الطويل، وليسَ على النوم في "عسل" صادرات "النفط الأسود" والنفط الخام، واستيرادِ كُلّ شيءٍ عداهما، وأيضاً ليس بالإيحاء بأنّ كُلّ شيءٍ في الاقتصادِ جيّدٍ و"على ما يُرام" ما دامت الحكومة قادرة على دفع الرواتب و "الإعانات".

يجب أن يقوم بناء السياسات الاقتصادية (النقدية والمالية والتجارية) على استشراف دقيق للأزمات والتحوّلات والمتغيرات (الإقليمية والدولية)، والاستعداد المُسبَق لتداعياتها، وليس انتظار أن يحدُث كُلّ ذلك (وهو سيحدثُ حتماً) لكي "تجفَل" الإدارة الاقتصاديّة في العراق، وتتخبّطَ في ردود أفعالٍ عاطفيّةٍ – شعبويّة غير مدروسةٍ عليها، لنبقى ندورُ إلى الأبد في هذه الحَلَقاتِ العقيمةِ المُغلقة.

إنّ هذه كُلّها تُعَد عناصر حاسمة فيما يجب أن تنطوي عليه(وتُصنَعُ من خلاله عادةً) كُلُّ السياسات الاقتصاديةِ الفاعلة والناجحة والكفوءة.


اضف تعليق