اقتصاد - مقالات اقتصادية

الدين العام الأمريكي

استثمره هاملتون، واستهلكته الحروب!

إن اعادة هيكلة ديون الولايات المتحدة وارد في المستقبل، بسبب استمرار معدلات عجز الموازنة واستمرار ظهور السندات الاميركية في كل مزاد، وبدأ الشك لدى كبار المستثمرين بالسندات الاميركية مثل اليابان والصين في قدرة اميركا على الاستمرار في تمويل عبء الدين المتزايد، وعموماً، استمر البنك الفيدرالي...

في الوقت الذي ظهرت به الولايات المتحدة، اتخذ العالم الاقتصادي في اوربا نظرته السلبية حول الدين العام، وكان "آدم سميث" من أبرز الداعمين لهذه النظرة، فقد كتب سميث في الفصل الاخير عن هذه الديون: أن ارتفاع هذه الديون سيدمر اوربا، وكل دولة تبنته قد ضاعفت التمويل تدريجياً، وعندما فشلوا في تخصيص الموارد توجهوا الى الاقتراض.

كانت هناك نظرة ايجابية من قبل الجنرال في الجيش الامريكي "الكسندر هاملتون" وهو مساعد قائد الجيش القاري، وهو يقر اذا كان الدين ضمن الحدود المعتدلة سيكون نعمة قومية وليس نقمة، كما أنه سيخلق بيئة مناسبة للصناعة والتجارة، فضلاً عن فرض الضرائب دون وجود ردود افعال كبيرة.

قام الرئيس "جورج واشنطن" بتعيين "السكندر هاملتون" ليكون اول وزير للخزانة في الدولة الجديدة، واتخذ هاملتون عدد من القرارات المالية ليحول اداة الدين العام الامريكي الى ثروة وطنية متخذ التدابير الآتية:

١- تبادل طوعي للديون القديمة مقابل الديون الجديدة تتكون من سندات بفائدة (6%) وسندات بفائدة (3%).

٢- دفعت حزمة الديون الجديدة بنسبة فائدة (4%).

٣- سُمح لوزارة الخزانة بأن تبق اسعار السوق ثابتة، وبدأ التداول الجديد لسندات الخزانة في سوق الاوراق المالية في بوسطن، نيويورك، وفيلادلفيا عام (1791)، وكانت هذه هي الولادة الاولى لسوق سندات الخزانة الحديثة.

٤- برزت اسهامات "هاملتون" الايجابية بشأن استخدام الدين العام، وقام باستبدال الديون القديمة بالديون الجديدة، وشجع البنوك على قبول ديون الولايات المتحدة كتعويض عن القروض.

٥- تم قبول السندات الامريكية بواقع (50%) بنسبة فائدة (6%)، وبعد مرور عام ارتفعت الى (90%)، وهكذا تم حل مشكل نقص السيولة التي واجهت الولايات المتحدة.

مع تنفيذ عملية إعادة هيكلة الدين العام، اقترح "هاملتون" على الكونغرس الامريكي إنشاء بنك وطني، وهو بنك الولايات المتحدة، والذي تم العمل به عام (1791) وبموجبه حصلت الحكومة الفيدرالية على حصة (20%) والذي تم تسديده لمدة عشر سنوات، وعرض على المستثمرين (80%) من أسهم المصرف وبنسبة فائدة (6%).

إجراءات "هاملتون" عززت الثقة بالبنك الاميركي، وهذا ادى الى تحويل رؤوس الاموال من أوربا الى الولايات المتحدة.

كان ابتكار هاملتون الثاني، هو توزيع ارباح اسهم البنك الامريكي على المستثمرين الاجانب، وسرعة تحويل الدولار الى مسكوكات ذهبية، وبالتالي كانت الاصول الامريكية صديقة للمستثمر الاجنبي، وكانوا يعرفون بأن هناك اسواق نشطة لهذه الاصول.

بعد عام (1815) اقترن ارتفاع معدل النمو الاقتصادي بمعدلات التعريفة الكمركية على العديد من السلع والخدمات لتوليد فوائض الموازنة، واستخدم هذا الفائض من اجل تخفيض الدين العام الى الصفر بحلول عام (1835).

وبعد الحرب العالمية الاولى ارتفع دين الولايات المتحدة من (1.2) مليار دولار الى (25.5) مليار دولار عام (1919)، بعدها تم تخفيض الديون من عام (1920-1930) بسبب زيادة فوائض الموازنة، اذ بلغ الدين العام نحو (16.2) مليار دولار، وهذا الانخفاض كان سببه انتعاش الاسواق المالية في الولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي.

في اعقاب الازمة المالية عام (2007) تدهورت الاوضاع المالية في الولايات المتحدة الامريكية، وبلغت ذروتها عام (2008)، حينها ازدادت توقعات الكونغرس الامريكي بأن تصل نسبة الدين العام الى GDP نحو (40%) ويرجع ذلك الى انخفاض الايرادات الضريبية بسبب الانكماش الاقتصادي، وعلى اثرها ارتفع حجم الدين العام الى اكثر من ترليون دولار في الاعوام (2009-2010-2011)، وهناك سبب اخر لإرتفاع الدين هو زيادة معلات النمو السكاني والرعاية الصحية، والجدير بالذكر أن الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الحزبان، الجمهوري والديموقراطي هو تأييدهم لمخصصات الموازنة العسكرية التي تتجاوز النفقات العسكرية للدول الصناعية الكبرى مجتمعة، وتبلغ قيمة خدمة الدين نحو (8) ترليون دولار، وهي حسب قوة الاقتصاد الامريكي قابلة للإدارة بسبب اجراءات البنك الاحتياطي الفيدرالي من خلال تدخله في الاسواق المالية وابقاء على اسعار الفائدة منخفضة، لأنه يدرك ان ارتفاع تكاليف الدين سيؤدي الى تقليل معدلات النمو الاقتصادي، ويقوض قدرة الاقتصاد الامريكي على السداد.

وتتمتع الولايات المتحدة بقوة عملة الدولار وشيوعها ومقبوليتها في العالم وتستمد هذه القوة من صلابة الاقتصاد الاميركي، وحتى يظل الدولار عملة احتياطي قابلة للتطبيق، ينبغي ان تفوق معدلات الفائدة معدلات التضخم.

إن اعادة هيكلة ديون الولايات المتحدة وارد في المستقبل، بسبب استمرار معدلات عجز الموازنة واستمرار ظهور السندات الاميركية في كل مزاد، وبدأ الشك لدى كبار المستثمرين بالسندات الاميركية مثل اليابان والصين في قدرة اميركا على الاستمرار في تمويل عبء الدين المتزايد، وعموماً، استمر البنك الفيدرالي على اثر ذلك زيادة العرض النقدي، الا ان ذلك له تأثير سلبي على مستويات التضخم، وان اعضاء الكونغرس الامريكي علموا بأن السياسة النقدية التوسعية ليس حلاً سليماً، وقد طرح أحد المسؤولين في البيت الابيض سؤالاً لوزير الخزانة: اعلم ان الولايات المتحدة تعتبر كمدين متعثر، هل تخبرنا ما هي الخطط المستقبلية لإعادة هيكلية الديون؟

اكتفى وزير الخزانة بجواب: ربما انك تسأل سؤلاً قانونياً!

بعدها تم وضع خطط مستقبلية للحد من الدين العام وتخفيضه، لأن التخلف على السداد واعادة الهيكلة سيؤدي الى زيادة في تكلفة الاقتراض في المستقبل، واثار اقتصادية في الدول الاوربية واسواق السندات الامريكية، لاسيما كشف وكالة " Bloomberg" أن الدين الأمريكي سجل ارتفاعا قياسيا خلال فترة حكم الرئيس الحالي، دونالد ترامب، حيث ارتفعت قيمته في السنتين الأخيرتين فقط بـ 1.9 ترليون دولار، وقد ارتفع الدين العام الأمريكي، ليصل إلى 21 تريليون، وهذا من شأنه التأثير على قدرة السداد للاقتصاد الامريكي، لاسيما ان الانفاق العسكري في تزايد، وعجز الموازنة مستمر، وقد يصل الى (1) ترليون بحلول عام (2020) وهذا سيشكل نسبة خطرة من الناتج المحلي الاجمالي، وهذا يؤشر على عدم تحقيق استدامة الدين العام الامريكي في المستقبل وينذر المستثمرين بالسندات الامريكية بوجود خطر على القيمة السوقية للسند الامريكي.

* باحث اقتصادي
M.A.Econ.DSA

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق