يعد الابداع عنصر اساس في الحياة، فقد يختلف الناس حول العديد من الاشياء الاساس- الاخلاق، السلوك الاجتماعي، السياسة- لكن معظم الثقافات والاديان تقر بالاهمية الاولية للابداع بصفته طاقة خلاقة، فهي تشعر بأن الابداع يبعث الحياة ويمنح تميزاً للاشياء التي لولاها لكانت روتينية ومكررة، كما قال سقراط "فأن الحياة التي لا تخضع للاختبار لا تستحق ان نحياها"، اننا نكن الاعجاب للاشخاص المبدعين لأنهم يصنعون فعلاً شيئاً من لاشيء وربما نخشاهم للسبب نفسه.
وفي عصر يتسم بالمعرفة والمعلوماتية والانفتاح على العالم، برز التقدم المتواصل لمختلف الادوات المنشودة للتطور والتنمية، فقد حدث انتشار سريع لبراءات الاختراع ولحقوق الملكية الفكرية وللعلامات التجارية، وكانت الملكية الفكرية عادةً موضوعاً مُملاً وغامضاً، او شيئاً يشغل الاختصاصيين فقط، لكنها في خلال السنوات القليلة الماضية اصبحت ذات تأثير كبير وعلى طريقة حيازة الافراد للافكار وامتلاكهم لها، كما على الناتج الاقتصادي العالمي.
ويقول المحاسب ارثر اندرسون "ان الالكترونيات، والبرمجيات، والرعاية الصحية، والمواد الاستهلاكية، والاتصالات، ووسائل الاعلام والترفيه تعتمد اعتماداً اساسياً على الملكية الفكرية"، لقد اصبح ذوو الافكار، اي اولئك الذين يمتلكونها اكثر نفوذاً، ممن يشغلون الالآت، بل انهم وفي كثير من الحالات اكثر نفوذاً ممن يمتلكون الالآت، الا ان العلاقة بين الابداع والاقتصاد تبقى غير مرئية تقريباً، وجرت محاولات عن امكانية الجمع بين جميع هذه المكونات- الابداع، والملكية الفكرية، الادارة، ورأس المال، والثروة- ضمن اطار شامل.
مفهوم الابداع
هو القدرة على توليد شيء جديد، فهو يعني انتاج شخص او مجموعة اشخاص لأفكار واختراعات ذات شخصية ومبتكرة وذات غاية، انه موهبة او بالاحرى ميزة، وهو يطرأ متى قال شخص او فعل او صنع شيئاً جديداً، سواء أكان ذلك بمعنى شيء من لاشيء ام بمعنى اعطاء هيئة جديدة لشيء ما، وهو ما يعتبر ابداعاً وان لم تؤدي هذه العملية الى اي شيء فهي موجودة في الفكرة والفعل في آن واحد، وتكون حاضرة عندما نحلم بالفردوس وعندما نصمم حديقتنا، وعندما نبدأ بالغرس، نحن نكون مبدعين عندما نكتب شيئاً سواء اتم نشره ام لا، او عندما نخترع شيئاً سواء استخدم ام لا، وتستخدم كلمة المبدع في اشارة الى الشخص الذي يحدث او يخترع شيئاً جديداً.
ثمة نوعان او مرحلتان من الابداع: النوع الاول الذي نجده لدى كروتو، والذي يتعلق بأنجازنا كأفراد وهو خاص وشخصي ونوع اخر يولد منتجاً، والاول هو ميزة عالمية للبشرية وهي موجودة في جميع المجتمعات والثقافات سواء في المجتمعات الحرة التي تشجعها او في المجتمعات الاستبدادية المغلقة التي عادةً ماتحاول خنقها، وعندما يقمع الافراد لأسباب سياسية او دينية او عندما تعوقهم معوقات اقتصادية، فأن النتيجة هي تدمير الافراد او اضعاف المجتمعات.
النوع الثاني والذي يقود الى انجاز منتجات ابداعية، فهو اقوى في المجتمعات الصناعية الغربية التي تولي قيمة اعلى للجدة والعلم والاختراعات التقنية ولحقوق الملكية الفكرية، وهذا النوع من الابداع يحتاج ايضاً الى سوق والى المام بالمواد القانونية، والنوع الاول من الابداع لايقود بالضرورة الى الثاني، لكن الثاني يتطلب الاول.
إننا جميعاً مبدعون، كلٌ على طريقته، في كيفية فهمنا لأنفسنا وتقديمها الى العالم وفي كيفية ادراكنا للعالم، و ومضات الابداع لدينا تكون شخصيتنا الى ان بعضهم يمضون الى ابعد من ذلك ويجعلون من خيالهم المبتكره نواة لمسيرتهم المهنية، وليس فيما يخص شخصياتهم فقط، بل ومن الناحية التجارية ايضاً اي بطريقة كسبهم لرزقهم وبأرباحهم.
الاقتصاد
ان الاقتصاد هو نظام لأنتاج السلع والخدمات وتبادلها واستهلاكها، ويعالج الاقتصاد بشكل عام مسألة كيفية اشباع رغبات الافراد والمجتمعات التي لاحد لها، عبر موارد محدودة، اي انه يتمحور بشكل رئيس حول توزيع الموارد النادرة، ان الافكار ليست محدودة كما هي حال البضائع المادية وان اقتصاديها ذو طبيعة مختلفة.
الابداع ليس فعالية اقتصادية بالضرورة، لكنه قد يصبح كذلك عندما يؤدي الى فكرة ذات اثر اقتصادي او الى منتج يمكن الاتجار به وهذا التحول من المجرد الى العملي اي من الفكرة الى المنتج صعب التعريف، فما من تعريف شامل للحظة التغيير يغطي جميع الاحتمالات، وتقترح قوانين الملكية الفكرية مجموعة من المعايير بينما تقدم السوق مجموعة اخرى، وبشكل عام فأن التغير يطرأ متى تم تعريف فكرة وبالتالي امتلاكها والاتجار به.
تكون النتيجة عبارة عن منتج ابداعي، وهو ما يعرف على انه "البضاعة او الخدمة الاقتصادية التي تنتج عن الابداع وتكون ذات قيمة اقتصادية"، والمنتج الابداعي قد يكون سلعة او خدمة، والسلعة كانت تعني تقليدياً شيئاً ذا كتلة مادية ككتاب مثلاً، بينما كانت الخدمة تعني شيئاً لا كتلة مادية له كالبث، لكن النجاح لم يحالف واضعي القوانين عند صياغتهم لهذه التعاريف بكلمات دقيقة، وهم عادةً ما يلجؤن الى التعليق بــــ "اذا اسقطته على قدمي فألمني، فهو عندها سلعة"، واصبح التمييز بينهما يتسبب بتشويش مزعج عندما تكون القيمة الاقتصادية للمنتج تعتمد اعتماداً كبيراً على مثل هذه المفاهيم غير المحسوسة، كالافكار وبرمجيات الحاسوب، وعندما تكون له حقوق ملكية غير مادية كما في حالة براءات الاختراع والعلامات التجارية والتصاميم، ويأتي نمو التجارة الالكترونية ليضيف المزيد من الحيرة فألمنتج الابداعي على سبيل المثال ربما يكون مقطوعة موسيقية قد يغير تصنيفه من سلعة الى خدمة ثم يعود ليصبح سلعة مجددة، الى ان خصائص المنتج تكون من خلال ذلك مزدوجة فهي ناتجة عن فعاليات ابداعية ولها قيمة اقتصادية يمكن ادراكها.
توظيف الابداع
ان الابداع حاضر على جميع مستويات الاعمال من ادارة الشركة الى تطوير كل منتج وتسميته واعطاءه شكله، وقليلة هي الاعمال التي لاتزال اليوم كما كانت عند عشرة او حتى خمسة اعوام خلت، واقل منها هي الاعمال التي ستبقى على حالها في خلال السنوات الخمس القادمة، فالمنافسة المتزايدة والتقانات المتغيرة ووصول الانترنت كل ذلك يتطلب من جميع الشركات ان تستعمل خيالها في الطريقة التي تجري بها اعمالها وان تكون يقظة فيما يتعلق بحماية منتجاتها من خلال حقوق الملكية الفكرية، والابداع ممكن في كل مؤسسة تكون فيها الجدة والاختراع ممكنين، وهو اكثر ما يزدهر عندما يتم تحفيزهما.
يتألف اقتصاد الابداع من المناقلات المجراة على المنتجات الابداعية، وقد تكون لكل مناقلة قيمتان متكاملتان: قيمة الملكية الفكرية غير المادية وقيمة الحامل المادي او المنصة في حال وجودها، وتكون قيمة الملكية الفكرية اعلى في بعض الصناعات كالبرمجيات الرقمية بينما تكون تكلفة تصنيع الغرض المادي اعلى في صناعات اخرى كالفن.
ويزدهر الابداع بالعلوم وخصوصاً في مجالي البحث والتطوير، وعلى رأي كولين رونان، مؤلف تأريخ العلم في العالم من كامبريدج "فأن الاشتغال في مجال العلم يتطلب خيالاً ابداعياً خصباً ينظمه انضباطاً مبني على قاعدة متينة من الخبرة الناتجة عن المراقبة".
صعود سلم الرغبات
ثمت مسببات قوية ستجعل من اقتصاد الابداع الشكل المهيمن للاقتصاد في القرن الواحد والعشرين، اولها واقواها حجة هو كيفية تطورنا بصفتنا كائنات مادية واجتماعية، وقد اقترح العالم الامريكي النفسي "ابراهام ماسلو" ان حاجاتنا ترتقي وفق هرمية من الحاجات المادية الى العاطفية والروحية، وهو مسار كان العالم جاكوب قد وصفه بأرتقاء الانسان فحاجاتنا الاولى هي الهواء والماء والطعام، ثم بعد اشباع هذه الحاجات، واذا كانت البيئة عدائية تأتي حاجتا المؤى والامان، ثم تأتي حاجاتنا الاجتماعية للانتماء واخيراً تأتي حاجتنا الى التطور الشخصي والاستكشاف الفكري، ومع تلبية كل هذه الحاجات يصبح الناس اكثر وعياً للحاجة التي تليها في الاعلى واكثر تطلعاً لتلبيتهاـ
يجب الا نفاجئ اذا تطورت سوق ما بحيث تلبي هذه الاحتياجات فثمة عمليات عديدة تجري، ففي مجال التزويد ادت اتمت الصناعات التحويلية وبمقدار اقل صناعات الخدمات الى تخفيض الطلب على العمل اليدوي، لذا فأن الشباب يبحثون عن عمل في مجالات اخرى، ويلجأ كثيرون الى الصناعات الابداعية التي توفر انماط حياة جذابة وعوائد اقتصادية اعلى من المتوسط، وقد نشأت صناعات جديدة تتمحور حول تقانات الاتصال الجديدة، كل منها بحاجة ماسة الى المهارات والافكار.
اما من جهة الطلب فأن الناتج الاقتصادي يستمر بالنمو مؤدياً الى نمو في قوة الانفاق، والى ارتفاع ميزانية اوقات الفراغ وزيادة التركيز على فعاليات اوقات الفراغ، فالبريطانيون والامريكيون واليابانيون ينفقون على ترفيه انفسهم اكثر مما ينفقون على الملابس او الرعاية الصحية ويتم اختيار معظم الملابس على اساس المتعة وليس على اساس فائدتها، وينفق البريطانيون والامريكيون على الترفيه من اجمالي 17%-20% اي اكثر مما ينفقون على الحياة المنزلية والطعام.
ونستنتج ان الجسر القائم بين الصناعات الابداعية والاقتصاد التقليدي قد يفسر لغز النمو الاقتصادي الامريكي الاعلى من المعدل في سياق الانتعاش الطويل كما يسميه "بيتر شفارتز" رئيس شبكة الاعمال العالمية، وقد كان الكثير من المراقبين الخبراء في اواخر تسعينيات القرن العشرين يقفون حائرين امام الطبيعة المتناقضة ظاهرياً، ففي حين تقترح نظرية الاقتصاد ان اجتماع الطلب الكبير مع النمو الكبير يقود الى ارتفاع اسعار المواد الخام والعمالة، اي الى التضخم، لم يؤدي النمو السريع في امريكا بين عامي 1996-2000 الى اي تضخم، وكانت النتيجة نمواً تجاوز النزعة طويلة الامد، واستمرار احداث فرص العمل وابقاء التضخم متدنياً.
وينطبق الشمول في جوهره على الابداع وليس على صنع منتجات ابداعية، ويمكن لأي شخص ان يحلم ويمكن ان تكون لديه فكرة، الا ان قلة هم من يستطيعون انتاج او احداث منتج ابداعي، فهذا امر يعتمد على المهارات التقنية والموارد المادية وربما على العوامل البيئية، ويرى الاستاذ ميشيل هوو من جامعة اكسيتير ان الانجازات الابداعية تعتمد اعتماداً كبيراً على عوامل سلوكية وبيئة عامة تدعمهم.
الابداع بحد ذاته ليس ذا قيمة اقتصادية، فهو يحتاج الى اتخاذ شكل والى التجسد في منتج قابل للاتجار اذا اريد له ان يستحق قيمة تجارية، وهذا بدوره يحتاج الى سوق مع بائعين ومشترين فعليين، وبعض القواعد والقوانين والعقود الاساس وبعض الاعراف التي تحدد ماهي الصفقة المعقولة، وهذا لايعني ان اعتماد هذه الشروط يلمح الى ان الابداع خارج السوق اقل ابداعاً بأي طريقة، بل فقط الى انه لم ينتج منتجاً اقتصادياً.
بالنتيجة فأن اقتصاد الابداع ينمو بسرعة متزايدة، وقد بلغ نموه السنوي في البلدان الصناعية في تسعينيات القرن العشرين ضعف النمو الكلي في صناعات الخدمات واربعة اضعاف نمو اجمالي التصنيع، وبين عامي 1987 – 2005 لم تنفك صناعات الملكية الامريكية تزيد في انتاجها بمعدل5.8% سنوياً بالمقارنة مع 2.8% بالصناعات الاخرى، وكانت تزيد في عدد فرص العمل بنسبة 4% سنوياً، وقد تضاعفت عدد براءات الاختراع الامركية تقريباً من 89 الف الى 169 الف، وارتفعت عدد البراءات الاوربية ارتفاعاً ابطأ لكنه مع ذلك يتابع الصعود.
اضف تعليق