لا يخفى على من يهتم بالشعر مدى براعة الفرزدق في قصيدة: ”هذا الذي تعرف البطحاء وطأته” التي مدح فيها الإمام زين العابدين بن الحسين. قصيدة لا تكاد تضاهيها قصيدة في المدح، تم التعاطي معها دائماً من حيث ما إستقر فيها من جمال شكلي وكمال تركيبي وبيان تعبيري. وحتى التعاطي التاريخي مع هذه القصيدة لا يكاد يتعدى كونها تسجيلاً لحدث تاريخي لا يستطال بحثه.
مما لا شك فيه أن فهم حقائق التاريخ الإنساني وفيه التاريخ الإسلامي بشقيه الثقافي والديني لا يقتصر حصراً على افادات ما يسمى بكتب الحديث الصحيحة. فكم من حقائق تاريخية لا تجدها في هذه الكتب وتجدها في دواوين الشعر القديم دون أن يستشكل على موثوقيتها أحد. إن سجلات الشعر العربي يرجع إليها لفهم لغة القرآن كما في لسان العرب لابن منظور ولوصف الحروب والعلاقات بين القبائل وكذلك لفهم أخلاقيات عرب ما قبل الإسلام.
فمن هنا يمكن القول بمعقولية الدعوة إلى إستعمال الموروث الشعري العربي وغيره وإن من باب البحث عن القرائن لفهم التاريخ الأخلاقي والعقدي الإسلامي، لأنه أحياناً يكون هناك من المواضيع ما دار حوله الخلاف على أساس الكتب الدينية في وقت توجد كتب من الموروث الثقافي منها ما نظم الشعراء من شواهد من شأنها دعم رأي على حساب الآخر.
هذه أمثلة لبعض المواضيع العقائدية المتعلقة بمناقب أهل بيت النبوة، التي تم التأصيل لها كما تم التشكيك فيها، تجد في سجل الشعر إنتصاراً للتأصيل على حساب التشكيك.
العصمة والولاية التشريعية
يقول الفرزدق:
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ،،،،هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ،،،،بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه،،،،العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
إن قول الفرزدق في الإمام زين العابدين أنه نقي وطاهر يعد إستذكاراً واضحاً لما ثبت ذكره في القرآن والحديث عن تطهير أهل البيت من الرجس. فإضافة الإمام زين العابدين الذي لم تذكره تفاسير غالبية المسلمين إلى أهل الكساء الخمسة الطاهرين المتفق عليها (محمد، علي، فاطمة، الحسن ثم الحسين) يحمل شهادة مهمة. شهادة تفيد بتداول الخبر آنذاك في زمن الفرزدق عن لائحة للطاهرين تفوق في العدد ما تضمنته مصادر أغلب المحدثين في العموم الإسلامي، وفيها الإمام زين العابدين. فالذي لا يعترض على ولاية الرسول تشريعاً وعلى عصمته من باب كونه طاهراً من الرجس لا يملك الإعتراض على ولاية باقي الطاهرين تشريعاً وعلى عصمتهم.
كما يعد وصف الفرزدق للإمام زين العابدين بـ” العلم” اشارةً إلى الوصاية. كيف لا والبديهي أن العلم لا يستقيم من دون أن يكون منصوباً من طرف ما. فالتنصيب هنا كامل الوضوح. كما إنه من خصائص العلم أن يكون متبعاً لكونه الدال على الطريق. وشاعر مثل الفرزدق ببراعته لا نظن أنه إستعمل المصطلحات دون التمكن من معانيها.
ويجدر بالذكر عنصر مهم هنا ألا وهو عنصر شهرة هذه الخصائص في أهل البيت. والإستدلال على شهرة هذا الأمر آنذاك بين المسلمين لا يكمن في كونه كان محل ذكر من طرف شاعر مشهور فحسب، بل أيضاً في معرفة الجهة التي يتوجه لها خطاب الشاعر. فهذه الجهة كانت الخليفة أم كان الجمهور، لا بد وأن الشاعر قد خاطبها بما تعرف؛ إذ أنه يستحيل أن يخاطب المرء الناس بما لا يفهمون وعما لا يعرفون. وهذا من مصاديق شيوع مقام أهل البيت بالرغم من القمع والحصار في ذلك الزمان.
هذا الشيوع كما في القصيدة تعدى العرب ليشمل العجم أيضاً. وحسبنا دليلاً على هذا عبارة:” العرب تعرف من انكرت والعجم”. من البديهي هنا أن موضوع المعرفة في قول الشاعر -العرب تعرف من أنكرت والعجم- هو مسألة عصمة وولاية أهل البيت في مجال التشريع والمتجلية في مقام وقف عنده الشاعر وهو مقام زين العابدين ع، وليس المعرفة معرفة صورة الإمام الجسمانية؛ وذلك لإستحالة هذا الأمر على العرب قبل العجم. هنا يستشف أن مسألة عصمة أهل البيت ع وولايتهم في مجال التشريع كانت من معتقدات المسلمين الشائعة التي أشار الفرزدق إليها في قصيدته والتي إنتشر خبرها بين العجم كذلك.
النورانية والولاية التكوينية
الله شَرّفَهُ قِدْماً، وَعَظّمَهُ،،،،،جَرَى بِذاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ
أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ،،،،،لأوّلِيّةِ هَذا، أولَهُ نِعمُ
مَن يَشكُرِ الله يَشكُرْ أوّلِيّةَ ذا،،،،فالدِّينُ مِن بَيتِ هذا نَالَهُ الأُمَمُ
إذا كانت نورانية أهل البيت ع من المسائل التي لا يجمع عليها أهل القبلة في عصرنا هذا فعلى الأقل لم يكن الأمر كذلك في عهد الفرزدق. فمثلاً قول الفرزدق “الله شرفه قدماً وعظمه” فيه اشارة إلى عنصر مهم في التشريف الإلاهي ألا وهوعنصر الأقدمية. فالإنسان ينال مقام التشريف بعد الإختبار الدنيوي كما هومعلوم، ولا يكون جريان القلم بتشريف الإمام في اللوح قبل الإختبار الدنيوي سوى دلالة على الإصطفاء المتقدم على الحياة الدنيا. فالحديث عن تشريف سبق عالم البدن هو تشريف للروح -روح الإمام-، وبما أن الروح فيها الطيب والخبيث، كان الأنسب الحديث عن النور عوض الروح. والقدم الذي نتحدث عنه هنا ليس بالأزل توضيحاً. والتعبير عن هذا المعتقد موجود في الأحاديث على اختلاف المدارس والطوائف حيث تجد حديث ”أول ما خلق الله نور نبيك ياجابر” المشهور، وتجد “لولاك ما خلقت الأفلاك”، وتجد قول الامام الصادق ع في زيارة وارث: ” اشهد انك كنت نوراً في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة “.
فالشعر هنا يؤدي خدمة عظيمة وهي إثبات شيوع أمر نورانية أهل البيت في عهد الفرزدق لتنسف أقاويل المبطلين المعاصرين الذين قالوا بخارجية هذا المعتقد. وإذا قال قائل أن قدم التشريف المشار إليه في القصيدة هو تقديم-مخصص– على من عاصر الإمام، فهذا قول مردود لذكر الفرزدق للوح والقلم عند اشارته لقدم جريان التشريف، حيث كان بإمكانه القول بأن الله شرفة دون الإستعانة بألفاظ: ” قدم” “لوح”،”قلم”، “خلائق” و” أولية” ما يربط بين الأسبقية والتشريف والتعظيم.
كما أن ذكره للخلائق إشارة واضحة لمراده المعنى الأوسع الذي يتعدى زمناً الوجود الجسماني للامام. وذكر الشاعر كذلك فضل الإمام على الخلائق بل وخضوعها لفضله الذي هو في رقابها كما في تعبيره “أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَتْ في رِقَابِهِمُ”. ويكفي ثبوت فضل أهل البيت على الخلائق أو التكوين لاستخلاص ولايتهم. وهذا ما أشار الشاعر إليه بوضوح.
الوسيلة ومركزية أهل البيت
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ،،،،كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ،،،،،وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ،،،،،وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
تعد هذه الأبيات المقتطفة من القصيدة من أجمل ما نظم في معتقد التوسل ومركزية أهل البيت من الإيمان. فالفرزدق لما يقول أن بغض أهل البيت كفر، فليست الفائدة تنحصر في الخبر الذي تقيده مصادر حديثية ويؤيدها، لكن الفائدة أوسع من هذا بحيث أن الشاعر يقدم شهادةً على شيء شائع في عصره. فالملاحظ أنه لم يستعمل أدوات إستفهام المخاطب كالقول:” ألا تعلمون أن …؟” على سبيل المثال. إذا لوكان الأمر كذلك، لقلنا أن الشاعر بصدد الإخبار عن غير الشائع لدى المخاطب. والحقيقة أنه ألقى القصيدة مطمئناً إلى اشتهار ما يقول وكأنه يتحدث عن المسلمات في عصره التي لا تحتاج إلى إثبات، مسلمات تعدت أخبارها العرب لتصل العجم.
فمركزية أهل البيت من الإيمان مثلاً لم يظهر الشاعر أي محاولة لإثباتها قائلاً:” حبهم دين وبغضهم كفر” وكأنه يقول ” من ذا الذي لا يعلم أن حبهم دين وبغضهم كفر”، وهكذا بالنسبة لباقي الفضائل التي ذكرها. ذكر الشاعر كذلك شيئاً شائعاً في عصره ومهماً وهو التوسل بأهل البيت ع في قوله: ”هُمُ الغُيُوثُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ” و“يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِمُ، وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ”. فمعلوم أن أهل البيت عانوا من الظلم والقتل والحصار. فلا معنى للإغاثة هنا بمنحاها المادي الصرف، بل المفهوم من الشاعر هو شمول غيثهم ع في دفع الشر والبلوى وجلب الإحسان والنعم، هذا إضافة إلى ما سبق في القصيدة من ذكر للإغاثة في أمور الدين. ولا تتحقق لا هذه ولا تلك إلا بشرط حب أهل البيت الذين هم الوسيلة.
الشعر كما يقال سجل العرب. كثير من الأخبار عن أخلاقيات وحوادث تاريخية قديمة تم اثباتها من خلال الشعر. لهذا وفي أمر مهم كالدين مثلاً يمكن توظيف الشعر والشعراء في فهم الثقافة الدينية السائدة في عصورهم كما نقلوها. فقد يكون لشاعر ما بيتاً يفصل في جدال عقائدي طال أمده.
اضف تعليق