اللّه أغدق علينا النعم، فإن شكرناها بالقلب واللسان والعمل فسوف يزيدها اللّه لنا. والشكر بالقلب، بمعنى عرفان النعمة والمنعم في قلبه، حيث يعلم ويعرف أن اللّه هو الذي أنعم عليه. والشكر بالعمل، وذلك من خلال طاعة اللّه وترك المعصية. وأمّا الشكر باللسان فواضح، فلو شكرنا اللّه فسوف يزيد...
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: (قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ)(1).
إن ضرر المعاصي والذنوب يرجع على الإنسان نفسه؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى غني عن عباده، ولا يحتاج إليهم في شيء، وإنّما خلقهم ليرحمهم، فليس له حاجة لنا ولغيرنا، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ)(2). وهذه الذنوب قد يكون لها آثار ملازمة لها، وقد بيّنها اللّه تعالى لنا من لطفه ورحمته لنحذر تلك الذنوب، ثم لا يخفى أن لكل ذنب أثر في الدنيا والآخرة، وقد بينت الروايات بعض هذه الآثار، ولكن ليس بالضرورة أن تكون جميع هذه الآثار لكل ذنب، ولكن كلّ ذنب من الذنوب لا يخلو من الآثار.
ومن هذه الآثار:
الأثر الأوّل: سواد القلب
إن أوّل أثر من آثار الذنوب هو سواد القلب، ففي الحديث الشريف: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً»(3).
لعل القلب يراد به الروح أو النفس، ولعلّ السواد يراد به الاحتجاب عن النور، الذي يبعثه اللّه سبحانه وتعالى على القلوب، فإذا أذنب الإنسان ذنباً وثانياً وثالثاً وهكذا فسوف ينتشر السواد إلى أن يغطّي كل القلب، وحينئذٍ يختم اللّه سبحانه وتعالى على هذا القلب، فلا يفلح صاحبه أبداً، وهذا ما أشار له قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ ٱلسُّوٓأَىٰٓ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ)(4)، فيكون مصير صاحب هذا القلب إلى النار.
الأثر الثاني: عدم استجابة الدعاء
ففي الحديث الشريف: «إن العبد يسأل اللّه الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول اللّه تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني»(5).
إننا في بعض الأحيان ندعو ونقول: يا رب، لماذا لم تستجب دعاءنا؟ وفي بعض الأحيان قد يصرّ الإنسان في الدعاء سنوات وسنوات، حيث يدعو اللّه فلا يستجاب له، ومن أسباب عدم استجابة الدعاء هي الذنوب، فالإنسان عندما يدعو قد يقدّر اللّه سبحانه وتعالى له قضاء حاجته، واستجابة دعاءه، لكنه بمجرد أن يذنب لا يقضي اللّه حاجته عقوبة له على ذنبه.
الأثر الثالث: التقتير في الرزق
كذلك إن اللّه سبحانه وتعالى يقدر الرزق لعبد من العباد فيذنب ذنباً فيقتّر عليه في رزقه، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن العبد ليذنب الذنب فيزوي(6) عنه الرزق»(7). فأسباب التقتير في الرزق أو التضييق متعدّدة، ولكن من هذه الأسباب هو هذا، فاللّه قدّر للإنسان الرزق؛ لأنه كريم ورحيم ولطيف، ولكن بسوء عمل الإنسان تغير ذلك التقدير إلى ضيق في الرزق.
وكذلك إن اللّه سبحانه وتعالى قد يحبس الأمطار بسبب الذنوب: فعن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إنه ما من سنة أقل مطراً من سنة ولكن اللّه يضعه حيث يشاء، إن اللّه عزّ وجلّ إذا عمل قوم بالمعاصي صرف عنهم ما كان قدر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم، وإلى الفيافي والبحار والجبال»(8).
الأثر الرابع: كثرة المشاكل
وقد يكون من آثار الذنوب كثرة المصائب والمشاكل والأمراض، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «أمّا إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنب، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه: (وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ)(9)، قال: ثم قال: وما يعفو اللّه أكثر مما يؤاخذ به»(10).
طبعاً هذا بالنسبة لأغلب الناس، وإلّا فأولياء اللّه سبحانه وتعالى أجلّ من ذلك، فإذا أصيبوا ببلايا أو أمراض أو مصائب فإنّما هو لرفع درجاتهم.
الأثر الخامس: على الذرية
إن بعض الذنوب تكون لها آثار في الدنيا على ذرية الرجل المذنب، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «من ظلم سلط اللّه عليه من يظلمه أو على عقب عقبه، قلت: هو يظلم فيسلط اللّه على عقبه أو على عقب عقبه؟! فقال: إن اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا)(11)»(12).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى نبي من الأنبياء: إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية، وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الورى»(13).
فإذا ظلم الإنسان يتيماً في يوم من الأيام، فسوف يقع ظلم على أبنائه أو في ذريته، وهذا أثر طبيعي لظلمه، وهذا لا يخالف العدل؛ لأن ما يصيب الذرية ليس عقوبةً لهم لأنه: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ)(14)، فإذا أذنب جدّهم فهذا لا يعني أن ما يجري عليهم هو عقوبة لهم، وإذا أكل إنسان أموال اليتامى فلا يعني أنه في المستقبل عندما تؤكل أموال ذريته يكون هذا عقوبة لأيتامه؛ لأنهم لم يفعلوا ذنباً، وإنّما هذا نتيجة عمله عقوبة له لا عقوبة للذرية.
وذلك لأن حكمة اللّه تعالى اقتضت اختلاف الرزق، وكذلك حكمته اقتضت عدم منع ظلم الظالمين عاجلاً وإنّما عقوبتهم آجلاً، فلذا قد يقدّر رزقاً أقل لذرية آكل مال اليتيم عقوبة له لا لهم، كما لا يمنع من أراد ظلمهم أيضاً عقوبة لوالدهم لا لهم.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أوعد اللّه عزّ وجلّ في مال اليتيم بعقوبتين: إحداهما عقوبة الآخرة النار، وأمّا عقوبة الدنيا فقوله عزّ وجلّ: (وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ) يعني ليخش إن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى»(15).
مثلاً: لو أن المرأة الحامل استعملت بعض الأدوية التي تشوّه الجنين، فحدث تشويه في الجنين بسبب استعمالها، أو أن الطبيب أخطأ في وصف الدواء، فسبّب تشوّهاً في الجنين، أو أن الأبوين لم يرعيا الموازين الذي ذكرت حين انعقاد النطفة، فما هو ذنب هذا الجنين بحيث أنه شُوّه بسبب غيره؟ إن هذا الجنين ليس له ذنب، وليس تشوّهه عقوبة له، وإنّما كان هذا نتيجة فعل الأب أو الأم أو الطبيب.
ولو أن إنساناً قتل آخر، فما هو ذنب المقتول، حيث زهقت روحه؟ إن المقتول ليس له ذنب، لكن هذا نتيجة عمل القاتل.
فإذا أذنب الإنسان قد يكون أثر ذلك الذنب إلى سبعة أجيال من نسله، وليس هذا عقوبة لهم، وإنّما هذا ظلم منه لهم، فلو أكل الأب أموال اليتامى فهذا الأب في حالة ظلم لذرّيته أيضاً بهذا الفعل.
الأثر السادس: الدخول في النار
إن الإنسان عندما يموت تنفصل روحه عن جسمه ويتحلل الجسم ويعود إلى الأرض، وأمّا روح الإنسان فتبقى ذات حياة إلى يوم النفخ الأوّل في الصور ثم تموت ثم يحيى مع الجسد حين النفخة الثانية.
وقد وصف القرآن الكريم الشهداء بقوله: (وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ)(16)، وقال أيضاً: (وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ)(17)، أي: إن الإنسان لا يشعر بحياتهم في البرزخ، لكنهم يأكلون ويشربون ويتنعمون إذا كانوا من المؤمنين، وأمّا إذا كانوا من الكافرين الفاسقين فيعذبون، وأمّا إذا كانوا من المستضعفين فيتركون كالنائمين حتى يحين يوم القيامة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لا يُسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم»(18). ثم في يوم القيامة يجمع اللّه سبحانه وتعالى أجزاء جسم الإنسان، وترجع الروح إليها وسيكون جزاؤها الأوفى هناك.
وهناك آثار أخروية للمعاصي والذنوب، ومنها: الدخول في النار، فإذا كان الإنسان مؤمناً فيستحق الشفاعة، ولكن قد يحصل تأخير في الشفاعة، فما من إنسان من المؤمنين إلّا ويحتاج إلى الشفاعة، إمّا للنجاة من العذاب أو لرفع الدرجات، فلو مات مؤمن ولم يذنب ذنباً قط، وكان قد عمل بجميع الطاعات فهو أيضاً يحتاج إلى شفاعة. صحيح، أن هذا ليست عليه عقوبة؛ لأنه لم يصدر منه ذنب، ولكنه يحتاج إلى رفع درجاته.
وفي بعض الأحيان يسبب الذنب تأخير الشفاعة، فإذا مات الإنسان فقد يكون من أهل الجنّة وتناله الشفاعة، لكن قد لا تناله الشفاعة إلّا بعد أن يمضي في جهنم أحقاباً(19).
ثم بعد مرور الأحقاب ـ وهي سنين طويلة جداً ـ تناله الشفاعة.
وفي بعض الأحيان لا يعذّب وإنّما يعاقب بتأخير الثواب، ففي الحديث الشريف: «إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن»(20).
وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إن الرجل ليحبس على باب الجنة مقدار كذا عام بذنب واحد، وإنه لينظر إلى أكوابه وأزواجه»(21).
الدنيا ليست ثواباً أو عقاباً
الدنيا عند اللّه لا قيمة لها، فهي لا تعادل جناح بعوضة، ولذا يعطيها للكافر، فيعطي ما لا قيمة له لمن لا قيمة له، وأمّا المؤمن فهو أسمى من الدنيا، فقد يعطي اللّه الدنيا للمؤمن أيضاً لا لقيمة الدنيا، ولكن لأجل أن لا يكفر غالب المؤمنين كما قال تعالى: (وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَ)(22)، أي: ولولا أن يؤدّي إلى كفر أغلب المؤمنين ـ حيث إن إيمانهم ضعيف ـ لخصّ اللّه الدنيا بالكفار، ومنعها عن المؤمنين، ومعنى أمّة واحدة: مجتمعين على الكفر.
إن الدنيا لم يجعلها اللّه عقوبة لكافر؛ لأن جريمة الكافر بكفره وشركه أعظم من أن يعاقب عليها في الدنيا؛ لذا ترى أغلب الكفار منعّمين.
وقد أشارت الأحاديث الشريفة لذلك: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن في كتاب علي (عليه السلام) أن أشد الناس بلاءً النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنّما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، وذلك أن اللّه عزّ وجلّ لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه، وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض»(23).
إذن، يجب على الإنسان أن يلتفت إلى أن الذنوب لها آثار وضعية، على نفسه وذريته في الدنيا والآخرة، ففي بعض الأحيان يذنب المؤمن والكافر، فاللّه يعاقب في الدنيا المؤمن دون الكافر حيث يؤخر عقابه إلى الآخرة.
إن بعض الناس يقول: لماذا نرى المصائب في بلادنا، بينما الكفار منعّمون مرفّهون، لا توجد عندهم مصائب؟
إن هذا الكلام على إطلاقه فيه إشكال، وليس صحيحاً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى يريد أن يطهّر المؤمن لذا يبتليه، وأمّا الكافر فهو من أساسه خبيث لا يتطهّر، وقد أشارت الأحاديث الشريفة لذلك: فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، أنه قال: «يا محمّد، إني حظرت الفردوس على جميع النبيين حتى تدخلها أنت وعلي وشيعتكما إلّا من اقترف منهم كبيرة، فإني أبلوه في ماله، أو بخوف من سلطانه، حتى تلقاه الملائكة بالروح والريحان، وأنا عليه غير غضبان، فيكون ذلك حلالاً لما كان منه، فهل عند أصحابك شيء من هذا»(24).
وعن أبي الصباح الكناني، قال: كنت أنا وزرارة عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال: «لا تطعم النار أحداً وصف هذا الأمر، فقال زرارة: إن فيمن يصف هذا الأمر من يعمل موجبات الكبائر، فقال: أو ما تدري ما كان أبي يقول في ذلك، إنه كان يقول: إذا تاب الرجل منهم من تلك الذنوب شيئاً ابتلاه اللّه ببلية في جسده، أو خوف يدخله عليه حتى يخرجه من الدنيا وقد خرج من ذنوبه»(25).
نعم أحياناً تكثر ذنوب المؤمن بحيث تضيق الدنيا عن عقوبته فقد يعاقب في البرزخ وأحياناً في يوم القيامة حتى يطهر من ذنبه.
والحاصل: إنّ اللّه لم يعطِ المؤمن من الدنيا إلّا القليل، وهو سبحانه وتعالى يريد أن يرحم المؤمن بالرحمات الخاصة، فينبغي علينا أن نجعل أنفسنا قابلين لتلك الرحمة، وهذا بأيدينا، فقد هيّأ اللّه سبحانه وتعالى الظروف لنا.
نعمة اللّه على المؤمنين
إننا نعيش في بلاد المسلمين، ولسنا في بلاد الكفار، واللّه سبحانه وتعالى قدّر أن نولد من أبوين مؤمنين، وهذه من نِعم اللّه تعالى علينا، ثم إن اللّه أرسل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وهذه نعمة أخرى تفضّل بها علينا. وأيضاً خصّص اللّه سبحانه وتعالى أياماً لزيادة الرحمة، حيث إن فيها مزيداً من الخير والبركة، كشهر رجب وشعبان ورمضان، فهذه أزمنة يفيض اللّه الرحمة فيها فيضاً. وأيضاً قد اختار أمكنة يفيض فيها الرحمة أكثر من غيرها، ومن أفضلها مراقد المعصومين والأولياء (عليهم السلام)، حيث يفيض الرحمة فيها فيضاً، فكل شيء مترتب لنا. فمن يعصي اللّه سبحانه وتعالى ـ والحال هذه ـ أفلا يستحق عقوبة؟ ألا يستحق تطهيراً من اللّه سبحانه وتعالى بأن يقع في صعوبات؟
عاقبة كفران النعمة
إذن، ينبغي علينا أن نستثمر هذه الظروف المناسبة، التي هيّأها اللّه سبحانه وتعالى لنا، حيث غمرنا بهذه النعم، ونشكر تلك النعم، لكي يزيدها علينا ولا بأس أن نذكر مثالين لمن كفروا بنعم اللّه تعالى.
المثال الأوّل: قوم سبأ، قال اللّه تعالى عنهم: (لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ)(26)، وقوم سبأ كانوا يسكنون في اليمن، وقد أنعم اللّه عليهم بمختلف النعم، وفي الحديث الشريف: «هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية وأموال ظاهرة»(27).
ثم أخبر سبحانه أنهم بطروا وبغوا: (فَقَالُواْ رَبَّنَا بَٰعِدۡ بَيۡنَ أَسۡفَارِنَا) أي: اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب إليها الرواحل، ونقطع المنازل، (وَظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ) بارتكاب الكفر والمعاصي (فَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَحَادِيثَ) لمن بعدهم يتحدثون أمرهم وشأنهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون: تفرقوا أيادي سبأ إذا تشتتوا أعظم التشتت، (وَمَزَّقۡنَٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ)(28) أي: فرقناهم في كل وجه من البلاد كل تفريق. إن اللّه أنعم عليهم بكل النعم، لكنهم كفروا النعم، فانتقم منهم(29).
المثال الثاني: بنو إسرائيل، حيث أنعم اللّه عليهم بالمنّ والسلوى، قال تعالى: (يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَٰعَدۡنَٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ)(30)، والمن شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالزبد والعسل، والسلوى وهو طائر السماني(31)، حيث يأتيهم دون تعب ونصب، فقالوا: لا نريد هذا، بل نريد غيره: (وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ)(32)، أي قال موسى (عليه السلام) لهم: اذهبوا وازرعوا؛ لذا قطع اللّه سبحانه وتعالى عنهم المن والسلوى، وكلّفهم بالزراعة والجهد والنصب.
إن اللّه سبحانه وتعالى أغدق علينا النعم، فإن شكرناها بالقلب واللسان والعمل فسوف يزيدها اللّه لنا.
والشكر بالقلب، بمعنى عرفان النعمة والمنعم في قلبه، حيث يعلم ويعرف أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليه.
والشكر بالعمل، وذلك من خلال طاعة اللّه سبحانه وتعالى، وترك المعصية.
وأمّا الشكر باللسان فواضح، فلو شكرنا اللّه فسوف يزيد نعمه علينا، قال تعالى: (وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ)(33)، وإن لم نشكر النعم فسوف يسلبها منّا، قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ)(34)، وقال سبحانه: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ)(35).
اضف تعليق