يرى الدكتور عمرو شريف في كتابه (رحلة عقل .. هكذا يقود العلم أشرس الملاحدة إلى الإيمان)، أن الوعي بوجود الله عند الإنسان هو وعي فطري ناتج عن شعور يقيني وضعه الله في البشر، وعلى أساس هذا الوعي يقوم الإنسان بتشييد أركان نظامه الديني بصفته (بُنْية تعلو هذا الشعور)، هذه الفطرة يؤكد عليها الفكر الإسلامي من خلال قول الله عز وجل في القرآن الكريم بقوله : " وإذ أخذ ربُّكَ من بني آدمَ من ظهورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم وَأَشْهَدَهُمْ على أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بلى شَهِدْنا أن تقولوا يومَ القيامةِ إنّا كُنّا عن هذا غافلين / الأعراف : الآية 172".
وحتى في المفهوم اللغوي، يقول ابن الأثير في معنى مادة (فطر): "أنه يولد على الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر في لزومها ولم يفارقها إلى غيرها" وقيل كذلك في معناه : "كل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدا، إلا وهو يقر بان له صانعا، وان سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره"
وثمَّةَ من يرى أن هذه الفطرة قد تقود إلى علاقة عاطفية يحكمها الانفعال بين الإنسان والخالق؛ لذلك لابد من تعزيزها بعلاقة عقلية؛ لأن الفطرة وحدها تجعل الإنسان على استعداد لأن يكون مؤمناً أو غي مؤمن، أي أنها لاتسلب إرادته، ومن هنا جاءت الحاجة إلى التديّن لتحقيق حالة من التكاملية والطمأنينة لإدامة هذه العلاقة القائمة على انجذاب الإنسان لقوة عليا يخضع لها، ويؤمن بها فطرياً بأنها التي تقف وراء إبداع هذا العالم وموجوداته " فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الروم:30)"
والحاجة إلى الدين ولعناصره الرئيسة من وحي ونبوة تعد ضرورية لهذه التكاملية في العلاقة؛ لأسباب منها مايتعلق بالاحتياجات الغريزية التي تديم بقاء الإنسان، خصوصاً إذا ماعلمنا أن الغريزة هي أيضاً من الأمور الفطرية، وفي حالة عدم السيطرة عليها قد يحدث اضطراب في عملية التوازن بينها وبين فطرة الإيمان وغيرها، وقد تتغلب نتيجة قوتها على فطرة الإيمان، وهذا السبب يرتبط بداخل الإنسان.
ومن الأسباب الأخرى، تلك التي تتعلق بالمحيط الخارجي، وتؤثر كذلك في الاخلال بالتوازن بين مافُطر الإنسان عليه، وهذه المؤثرات لها علاقة بالجوانب التربوية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تساهم في خدش الصورة الجميلة لهداية الفطرة، أو تساهم التمرد عليها بسبب الانغماس في الأفكار المادية، فنسمع مثلاً عن إلغاء الملكية الفردية بذريعة التشارك، أو إنكار الرغبات الحسية والجنسية بذريعة الانقطاع إلى الله أو ما يسمى بالرهبنة أو الترهب.
وهنا سنصل حتماً لنتيجة مفادها: إن هداية الفطرة غير كافية لتنظيم علاقة المخلوق بالخالق، ويلزم هداية أخرى تحقق للعلاقة ــ كما قلنا ــ التكاملية، وهذه الهداية تتمثل بالدين والتدين، والإيمان برسالات الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى لتنظيم العلائق والتوازن، وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة لوظيفة الأنبياء بقوله : " فبعث ـ أي الله ـ فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول/ الخطبة الأولى".
وإذا كان الدين بحسب بعض الآراء يمثل انعكاساً لمكونات الحياة الاجتماعية، وتمثلاتها في الأدب والفلسفة والعلوم وغيرها؛ فإن الدكتور عمرو شريف يؤكد على أن الدراسات قد أظهرت التشابه في الأنساق الدينية بين الشعوب سواء كانت بدائية أو متحضرة، مايعني أن علاقة الإنسان بالدين هي علاقة يحكمها العقل من دون التنكر للفطرة : " قولنا إن علاقة الإنسان بالدين علاقة عقلية، لاينفي وجود الرغبة الفطرية لدى الإنسان في اعتناق دين ما، أما دور العقل فهو إدراك صحة المضامين الدينية.. لذلك ينبغي القيام بالفصل الدقيق والصارم بين الشعور الفطري العاطفي متمثلاً في الوعي بوجود الله، وبين الفكر العقلاني الذي يتمثل في إدراك صحة المضامين الدينية؛ حتى لايفقد الإنسان طريقه الصحيح في التوجه إلى الله، وهو غاية الغايات من خلق الإنسان في جميع الديانات"1.
وفي كل المراحل الزمنية، والأطوار الحياتية التي مرت على الوجود البشري؛ كان للتدين حضور عميق في وجدان الإنسان المنجذب إلى الماورائيات والغيبيات؛ لذلك لايمكن بأي حال من الأحوال تصور غياب التدين عن أي حضارة بشرية. وإرادة السماء شاءت لهذا التدين إشباعاً روحياً ومعرفياً، ومن ثم يلعب هذا الإشباع دوره الحيوي في تنظيم السلوكيات، وتبويب الاحتياجات من الأهم إلى المهم وهكذا بما يلائم نزعاته ومتطلباته المادية والنفسية والعقلية والروحية، وتلبية هذه المتطلبات لاتتم إلا من خلال إشباع التدين الذي سيقوده بالنتيجة إلى حل إشكاليات الغموض المتعلقة بالوجود، والوصول لبر أمان الحقائق الطاردة لكل خوف وقلق بمنتهى الأمن والسكينة الذاتية.
اضف تعليق