لا يحضر الاب في أي موقع الا وتحضر معه الكثير من صور الرفض والاستبعاد.. فهو يمثل في وعينا القسوة والخشونة والعنف، حتى لو كان ذلك غير صحيح، على العكس من الام وحضورها، الذي كثيرا ما يقترن بالتقديس..لا يحضر الاب في المناسبات العائلية كثيرا، فكل مناسبة تستأثر بها الام، في الأعياد والافراح والاحزان، انه لايكون مع أبنائه في داخل البيت، بل هو دائما المطلوب منه ان يكون خارجه، يقاتل الدنيا لاجل من في داخل هذا البيت.
حتى جراحاته وانكساراته لايريها لابنائه، فقد تربى على قيم معينة للرجولة، ليس فيها شيء من طلب العون او استدراج الشفقة من الابناء، على العكس من الام التي يعجبها ان تلعب دور المنكسرة والباحثة عن تعاطف أبنائها..
حتى اللغة لم تنصف الاب، فقد وزعت تسميته على الجد والاعمام والاخوال، لان من لوازم تلك التسمية هي التربية والقيام بمصالح المرء.. لم يسلم الاب من قسوة أبنائه التي تصل حد القتل، وهو قتل معنوي او مادي، لافرق بين الاثنين طالما انهما يزيحان الاب من المشهد، ويمارسان عليه الاقصاء ومحاولة طمس صورته من المشهد، لهذا اقترن التمرد من قبل الابناء على الاباء، واقترنت صور الصراع بين الاجيال في ثنائية الاباء والابناء.
في معرض الحديث عن ثقافتنا العربية والإسلامية، نستعير الاب رمزا لهذه الثقافة، الطاردة والمستبدة، فيقال الثقافة الابوية، وهي الثقافة التي تراقب ابناءها وتصادر أفكارهم وحرياتهم.. اكتسب قتل الاب الكثير من الاهتمام، واتحدث عن جانبه الفلسفي والنفسي، والذي استمد من الاساطير الكثير من ديمومته وتفسيراته.. تطوّر مفهوم قتل الآباء بتطور الفلسفة ، فلم يعد الابنُ يقتل أباه ليحلّ محلّه في السماء حسب الأسطورة، أو ليحلّ محلّه في العرش حسب التاريخ، أي لم يعد قتلُ الآباء استبدالَ وجودٍ بوجود، بل أصبح الابنُ يقتلُ فكْـرَ الأب ليضع فكرَهُ مكانه، ولذلك لم يعد صراع الأجيال صراع وجود بل صراع معرفة، وقد ساهمتْ ظروفُ الحياة المعاصرة – ولا سيما ثورة الاتصالات- بأن يصبح الابنُ أكثر معرفةً من الأب، وفق مقاييس المعرفة التي يعترف بها عالمنا الحاضر، فاليوم معظم الشباب مقتنعٌ بأنه أكثر وعياً ومعرفةً من آبائه. (عبد الكريم بدرخان/ الشباب العربي وقتل الآباء / الحوار المتمدن)
في الدلالة على الاستبداد من خلال رمزيته، يحضر الاب كثيرا في المقارنة بين الاب والنظام السياسي المستبد.. فمثلا (الحكم المتسلط في السعودية يقوم على مبدأ الابوة ومفهومها المجتمعي فيتقمص شخصية الاب ليعممها على المجتمع ويتحول الملك تحت هذه المنظومة الى اب للجماعة ويرفع معنى الابوة الى لحظة قدسية وعصمة متسلحا بكبر العمر والموارد الاقتصادية والقوة المسلحة ليفرض نفسه على المجتمع كالاب البديل للامة). د. مضاوي الرشيد "القدس العربي" السعودية: الاستبداد يقتل الأب وفي الرواية العربية يحتل الاب ايضا الكثير من تلك المساحة، الاستبداد وما يتعلق به من شؤون وشجون، والرغبة في التحرر والانعتاق من اسره..
مثل رواية "الخندق الغميق "لسهيل إدريس، حيث نجد الأب الذي يعارض ابنه ويرى في هوايته التي هي القراءة والكتابة تفاهة، معبِّراً بذلك عن امتلاك وتسلُّط يمارسهما هذا الأب تجاه ابنه، وعن عداء لثقافة وجهل بقيمها.
ورواية ليلى بعلبكي"أنا أحيا" وحديث البطلة عن سلطة والدها باعتباره لا الأب فقط، بل أيضاً، وبحسب منظور الرواية ومعناها العميق، التاجر الذي يفرِّط بوطنيته وعروبته حرصاً على الربح والمال، كذلك تُماهي حنان الشيخ في روايتها "حكاية زهرة" بين العنف الأبوي باعتباره سلطة ذكورية قرينها القناص، وبين الدمار الذي يصيب جسدها الأنثوي كما أصاب جسد المدينة.
في روايته "خريف البطريرك" يذهب ماركيز الى رأس السلطة، الديكتاتور، وكذلك يفعل راوول باستوس في روايته"أنا الأعلى". في حين يقف نجيب محفوظ، في روايته"ميرامار"عند مدير المصنع، ويُحمِّل الأخلاق، وليس النظام، مسؤولية ما يجري من فساد وتدهور لهذا المصنع، وبالتالي للوطن.
الآباء، هم في مثل هذه الروايات، بلا حضور فعلي، بلا صوت، حاضرون فقط للمذلة والمهانة، أو مجرد وسطاء، وأقنعة لنقد واقع سياسي، أو اجتماعي ثقافي، ليس مثل هذا الأب سوى ضحية من ضحاياه. يمنى العيد / الأبوة ذكورة ... والذكورة عنف؟. بحثاً عن صورة الأب في روايات أجيال مختلفة.
القسوة المفرطة تجاه الاب في الفلسفة او الادب وعلم النفس التي مارستها تلك التفسيرات والمواقف من الاب جعلته يعيش في عزلة لا يستطيع كسرها والتحرر منها، والعودة الى مكانته الطبيعية في حياة ابنائه، يغمرهم بحنانه ومحبته وعطفه ويكون قدوة لهم.. ومن المفارقات التي نحياها ان الكثيرين منا صورة عن ابائنا رغم جميع صور الصراع بين جيل الاباء والابناء، فنحن كثيرا ما نشابه اباءنا في مراحل حياتنا المتقدمة، شئنا هذا ام ابينا.. لاتدعوا الاب وحيدا في عزلته.
اضف تعليق