في أغلب الأحيان، يُنظَر إلى الشرطة المجتمعية على أنها تُشكِّل جزءًا ضروريًا من منظومة الإصلاحات الرامية إلى التخفيف من الضرر الذي قد ينجم عن عموم العمل الشرطي، لا سيّما في المجتمعات منخفضة الدخل، التي ترتفع فيها معدَّلات العنف. لكنَّ بناء علاقات أساسُها التعاون بين المجتمعات المحلية والشرطة ليس هينًا...
بقلم: إليسيا جون، وشون دي بوشواي
في أغلب الأحيان، يُنظَر إلى الشرطة المجتمعية على أنها تُشكِّل جزءًا ضروريًا من منظومة الإصلاحات الرامية إلى التخفيف من الضرر الذي قد ينجم عن عموم العمل الشرطي، لا سيّما في المجتمعات منخفضة الدخل، التي ترتفع فيها معدَّلات العنف. لكنَّ بناء علاقات أساسُها التعاون بين المجتمعات المحلية والشرطة ليس هينًا. في عددٍ سابقٍ من دورية Nature، سلَّط الباحثان أنوج شاه ومايكل لافورِست1 الضوءَ على تجربةٍ ميدانية ضخمة تُفيد بأن إعطاء السكّان المحليين بطاقاتٍ وخطاباتٍ تتضمّن معلوماتٍ أساسية عن ضبّاط الشرطة في المنطقة التي يقطنون فيها قد يمنع وقوع الجرائم. وبالجمع بين هذه النتائج وأخرى مُستقاة من بعض التجارب التي أُجرِيَت على شبكة الإنترنت، يعزو الباحثان هذا الانخفاض الملحوظ في معدلات الجريمة إلى «تجانس معلوماتي» مُتصوَّر.
الغرباءُ المعروفون أشخاصٌ لم يسبق أن التقينا بهم، إلا أننا نعرف بعض المعلومات عنهم، ومن هؤلاء المشاهير. ونحن نميل إلى أن نفترض – خطأً – أنَّ هؤلاء الغرباء المعروفين يعلمون كثيرًا عنّا، مثلما نعلم عنهم. وهذا الميل إلى الشعور بالتجانس المعلوماتي، في وقت ينعدم فيه هذا التجانس، يُوصَف بأنّه نوعٌ من الحدس الاجتماعي؛ طريقةٌ مختصرة في المعالجة الذهنية.
استخدم شاه ولافورست سلسلةً من التجارب المفاهيمية التي أُجرِيَت على شبكة الإنترنت لتقييم الكيفية التي يتجلَّى بها هذا الحدسُ في أحكامنا على الغرباء المعروفين. وقد أجرى الباحثان التجاربَ على منصةٍ أمريكية من منصّات التعهيد الجماهيري، تُسمَّى «أمازون ميكانيكال تيرك» Amazon Mechanical Turk. لا يُمثِّل المشاركون في التجارب على هذه المنصة السكّانَ البالغين في الولايات المتحدة، بل أكثرهم من البيض والليبراليين والشباب، نسبةً إلى عموم السكّان2. ومع ذلك، تشير الأبحاث3 إلى وجود أوجُه شبهٍ كثيرة بين تأثيرات المعالجة في التجارب التي تُجرَى على العيّنات الملائِمة (مثل الطلاب أو عيّنات المشاركة عبر شبكة الإنترنت)، والعيّنات التمثيلية للسكّان.
في كلِّ تجربة، اعتَقَد المشاركون أنَّهم يتبادلون معلوماتٍ أساسية مع شخصٍ آخر (غريب معروف)، على الرغم من أن هذا الشخص لم يكن موجودًا في حقيقة الأمر، تلقَّى المشاركون، عوضًا عن ذلك، إجاباتٍ مُبرمَجة مُسبقًا عن أسئلةٍ معينة.
استُخدِمت في كل تجربةٍ طريقةٌ مختلفة لاختبار مدى تأثير المعلومات التي تلقّاها المشاركون في إدراكهم حجمَ المعلومات التي يعرفها عنهم الشخص الغريب المعروف. وقد تبيَّن مِن التجربتين الأخيرتين أن التجانس المعلوماتي المُتصوَّر يُقلِّل من احتمالية أن يسلك المشارك سلوكًا غير أمين، حين يعتقد أن الشخص الغريب المعروف سيكون مسؤولًا عن ضبطه مُتلبِّسًا بالغش.
بعد ذلك، طبَّق الباحثان هذه النتائج على منظومةٍ واقعية، وهي الشرطة المجتمعية (الشكل 1). فبالتعاون مع شرطة نيويورك، أرسل الباحثان إلى القاطنين في 39 مُجمَّعًا سكنيًا حكوميًا بطاقاتٍ وخطاباتٍ تضمَّنت منشوراتٍ تعريفية بها معلوماتٌ عن ضباط الشرطة العاملين في المجتمع المحلي الذي تقع فيه تلك المُجمَّعات السكنية، ويُطلَق على هؤلاء ضباط تنسيق الأحياء. تضمَّنت هذه المعلومات بياناتٍ شخصية، مثل الطعام، أو الفريق الرياضي، أو البطل المفضَّل لدى الضباط. وقد اشتملت التجربةُ على مجموعةٍ ضابطة كانت مُؤلَّفةً من 30 مُجمَّعًا سكنيًا يعمل فيها ضباطٌ لتنسيق الأحياء؛ لكن القاطنين فيها لم يتلقوا منشوراتٍ تعريفية عن هؤلاء الضباط.
قدَّمت هذه التجربةُ الميدانية أدلةً مقنعة تُفيد بأن تدخلًا بسيطًا يمكن أن يُقلِّل من معدل حدوث الجريمة. في حقيقة الأمر، رصد الباحثان في الأشهر الثلاثة التي أعقبت التدخّل انخفاضًا تتراوح نسبته بين 5% و7% في معدّلات الجريمة في المُجمَّعات السكنية التي تلقَّت المنشورات التعريفية، مقارنةً بالمُجمَّعات التي لم تحصل عليها. هذا المستوى من الانخفاض في معدلات الجريمة يُماثل مستوى الانخفاض الناتج عن السياسات الشرطية الأشد صرامةً4. لكن هذا الانخفاض في معدّلات الجريمة شهد تراجعًا بعد ثلاثة أشهر، وهو ما يعزوه الباحثان إلى أن التدخّل كان طفيفًا، ومدّته كانت محدودة. لذا، قد تتحقق تأثيراتٌ أطول أمدًا إذا ما صُمِّمَت التدخّلاتُ على نحوٍ يضمن ترسيخ المعلومات التعريفية المتعلقة بالضباط في أذهان السكّان (كأنْ تُرسَل منشوراتٌ تعريفية على مدار فترةٍ زمنية أطول وبتواتر أكبر).
يعزو الباحثان الانخفاضَ الذي حدث في معدّلات الجريمة إلى تصوُّرٍ مُعزَّز بين السكّان الذين يتلقّون منشوراتٍ تعريفية بأنهم إذا ارتكبوا جريمةً، فسوف يعلم بها الضباط. كذلك فإنّ الاحتمالات المترتبة على هذه النتائج مثيرةٌ للاهتمام، لأن هذا الجهد البحثي يُشير ضمنًا إلى أن ضابط الشرطة الذي يُنظَر إليه باعتباره شخصًا حقيقيًا يمكنه منع الجريمة دون اللجوء إلى أساليب بعينها، مثل سياسة «التوقيف والاستجواب والتفتيش» التي تنتهجها شرطة مدينة نيويورك، والتي تخلق في أغلب الأحيان عداوةً بين أفراد المجتمع والشرطة.
يُشكِّل النهج البحثي المختلط الذي اتبعه شاه ولافورست (من خلال استعانتهما بالتجارب التي تُجرى على شبكة الإنترنت لتقييم الآليات السيكولوجية، ثم اختبار تلك الآليات على أرض الواقع) إحدى نقاط القوة التي تُميِّز هذه الدراسة. لكن نتائج التجارب التي أجرياها على شبكة الإنترنت لم تُطبَّق بشكلٍ كامل في التجربة الميدانية. وعلى وجه التحديد، زادت احتمالات أن يُعرِب السكان الذين تلقّوا المنشورات التعريفية عن اعتقادهم أن الضباط سيكتشفون أمرهم حال ارتكابهم جريمة، مقارنةً بأولئك الذين لم يتلقّوا المنشورات، إلا أنهم قالوا إنهم لا يعتقدون أن الضباط يعرفون مزيدًا عنهم بشكلٍ عام. يُشكِّل هذا العنصر الأخير جانبًا محوريًا من جوانب ظاهرة التجانس المعلوماتي التي كانت موضع اختبارٍ في التجارب التي أُجرِيت على شبكة الإنترنت، كما يوحي بأن ثمة عوامل أخرى قد تُسهم أيضًا في بعض النتائج التي رُصِدَت في التجربة الميدانية.
يستبعد الباحثان عددًا من هذه العوامل البديلة المحتمَلة. فهما، على سبيل المثال، يوضِّحان أن التدخّل لم يؤثّر في رأي السكان بخصوص مدى دراية الضباط بالمنطقة التي يقطنونها، كما أنه لم يؤثّر في درجة ثقة السكان في الشرطة، أو المستويات المُتصوَّرة للوجود الشُرطي. لكن ثمة ظواهر نفسية أخرى قد يكون لها تأثير.
تشمل هذه الظواهر أحكام التشابه (الفكرة القائلة بأن معرفة مزيدٍ من المعلومات عن شخصٍ غريب قد تُشعِرك بأنه أقربُ شبهًا إليك)، والتقارب النفسي (الفكرة القائلة بأن شعورك بالتشابه بينك وبين شخصٍ ما يمكن أن يزيد من الترابط العاطفي بينكما، ما يُسفِر عن تغيُّراتٍ في السلوك)5-7. في الواقع، سبقت الاستعانة بهذه الظواهر في وضع تدخلاتٍ تهدف إلى الحدّ من الانحراف8. ففي تجربة شاه ولافورست الميدانية، قد يكون شعورنا بتقاربٍ نفسي مع شخصٍ غريب معروف لنا (ضابط الشرطة في حالتنا هذه) رادعًا لنا عن الإقدام على سلوك قد يؤثر سلبًا في علاقتنا بهذا الغريب. في هذه الحالة، سيكون التغيير الحادث في السلوك مدفوعًا بعلاقةٍ عاطفية أكبر، وليس ناتجًا عن تجانس معلوماتي مُتصوَّر. وأخيرًا، فإن التدخّل ربما يدفع السكان، على الأرجح، إلى الاعتقاد بأن المراقبة الشرطية لمجتمعهم المحلي أكبر مما هي عليه في واقع الحال، وهو أمرٌ لم يخضع للتقييم في الدراسة موضع النظر.
تُعدُّ الرقابة الاجتماعية غير المباشرة -لا سيّما تلك التي أرسى المجتمع دعائمها بنفسه- أقل كُلفةً وتدخّلًا من الرقابة أو التحكّم المباشر من جانب وكلاءٍ خارجيين. وليس بمقدور هذه الدراسة أن تُبيِّن لنا كيف يمكن ردع الجريمة دون الاعتماد على المراقبة من جانب جهاتٍ خارجية. لكن إلى أن يتأتَّى لنا الوصول إلى مثل هذه السياسات، ربما يُسلِّط الجهدُ البحثي لشاه ولافورست الضوءَ على طريقةٍ مُفيدة يتيسَّر من خلالها لقوات الشرطة تحقيق نتائج أكبر بجهدٍ أقل عند نشر الضباط في مجتمعٍ محلي.
اضف تعليق