ثقافة وإعلام - كتب

الايمان العلماني

قراءة في كتاب جديد

الكاتب يعرّف الايمان العلماني كإخلاص للحياة كما تُعاش بكل ما فيها من مُتع وخسارة ولايقين. هو يفترض ان الاعتقاد بالحياة كزمن محدود هو بذاته ايمان، هو يرى ان حياتنا هي ما نعمل بها. هذه الرؤية تؤكد على مسؤوليتنا الفردية وحريتنا في ممارسة تلك المسؤولية، الحياة...

كلنا نعلم ان هذه الحياة محدودة، لكن هل نضع هذه الحقيقة في أذهاننا وننفق وقتنا بشكل جيد؟

كتاب (هذه الحياة كيف يجعلنا الموت احرارا) (1) هو فحص هام للإيمان العلماني مقابل الايمان الديني.

الكاتب يعرّف الايمان العلماني كإخلاص للحياة كما تُعاش بكل ما فيها من مُتع وخسارة ولايقين. هو يفترض ان الاعتقاد بالحياة كزمن محدود هو بذاته ايمان، هو يرى ان حياتنا هي ما نعمل بها. هذه الرؤية تؤكد على مسؤوليتنا الفردية وحريتنا في ممارسة تلك المسؤولية، الحياة هي لأجل الحياة.

يرى الكاتب اننا لانستطيع الاعتماد على افكار الخلود من مصدر آخر لأن ذلك يعني ان قيمة الحياة وخسارتها هي بلا معنى. هو يقتبس من كلمة للرئيس الامريكي اوباما عن يسوع ألقاها في تأبين ضحايا المدرسة الابتدائية عام 2012، بالقول "دع الاطفال الصغار يأتون لي". الكاتب يرى ان الغاية المنطقية لهذه العواطف تشير الى ان القتل لم يكن تراجيديا نهائية وانما مرحلة انتقالية نحو الله. الكاتب يعتمد على العديد من الكتّاب والفلاسفة في مجالات الاقتصاد والفلسفة والسياسة.

قبل سنوات نشرت المجلة الكاثوليكية الامريكية مقالا كتبه احد المتدينين بعنوان: "هل الجنة ستكون شيئا مزعجا؟" المقال يجيب بـ (لا) لأن الارواح في الجنة تُستعاد ليس الى راحة أبدية وانما الى فعالية ابدية او اهتمام اجتماعي ابدي، لكن الفيلسوف السويدي مارتن هاغلند يجيب بالتأكيد بـ (نعم). هي ليست فقط مزعجة وانما بلا معنى. "، هو يكتب، "لو ان حياتنا استمرت الى الابد بدون انقطاع، فسوف لن نأخذ حياتنا على محمل الجد. سوف لا نهتم بالطريقة التي ننفق بها وقتنا لأن الوقت سوف لن يكون ثمينا. عندما نواجه مواقف تحتاج الى قرار معين سواء حول عمل شيء مفيد خلال ساعة او يوم كأن يكون في مراعاة علاقات اجتماعية او خلق عمل فني او الاستمتاع بمشهد طبيعي، فاننا سوف لا نهتم، لأنه سيكون دائما هناك غد، وبعده غد ثم غد".

الاهتمام بأي شيء يفترض سلفا ان خطأ ما قد يقع او شيء ما يضيع، والاّ نحن سوف لن نهتم. الفعالية الأبدية هي مثل الراحة الأبدية لاتُقلق أحداً، طالما لايمكن ايقافها ولا حاجة للإبقاء عليها من جانب اي شخص. المشكلة هي ليس ان الفعالية الابدية ستكون "مزعجة" وانما هي لايمكن تصورها كفعالية. أي فعالية بما فيها الفعالية المزعجة تتطلب المحافظة عليها، بينما الفعالية الابدية لا يعتمد استمرارها على أي شخص، ولذلك هي ليست فقط لايمكن تحقيقها وانما هي غير مرغوبة لأنها تخلو من العناية والعاطفة التي تطبع حياتنا. ما نعمل وما نحب يهمّنا فقط لأننا نفهم أنفسنا كمخلوقات فانية وان وقتنا محدود.

احيانا نشعر بالضآلة من الإحساس بمحدودية الحياة، لكن الحقيقة هي ان امتلاك وقت لا نهائي للتعامل معه سيكون امرا سيئا جدا. السؤال هنا ليس حول ما اذا كان العالم الآخر موجود ام لا.

كتاب (This life….) شديد الطموح، يجمع بين الفلسفة والروحانية والسياسة، يبدأ بموقف لمواجهة الموت، وينتهي بموقف لأجل الاشتراكية الديمقراطية. الناس المتدينون حتى لو لم يؤمنوا في مكان اساسي محدد يسمى الجنة، مع ذلك، هم يؤمنون ان ما يهم حقا في الحياة يعود الى عالم الخلود والآلهة. ونتيجة ذلك هو "انحسار وتراجع في حياتنا المحدودة كشكل متدني للوجود". البديل لدى هاغلند هو "الايمان العلماني"، يؤكد فيه ان حياتنا المحدودة هي كل ما لدينا وان هذه المحدودية ليس فيها أسف، بل هي التي تمنح المعنى للحياة.

اعتاد الكاتب ان يمضي عطلته السنوية العائلية في بيت الطفولة على ساحل بحر البلطيق في السويد، ويعتبرها فرصة ثمينة لأنه سوف لن يتمكن من ممارسة هذه المتعة الى الأبد، بسبب ان علاقاته العائلية هي هشة ومؤقتة. حتى المشهد الذي ينتصب فيه البيت يتغير مع ذوبان الثلوج الهائلة. يصر هاغلند انك فقط عبر الايمان العلماني نستطيع حقا الاهتمام بأزمة المناخ. اذا كانت حياتنا المتناهية هي فقط وسيلة للخلاص الأبدي، عندئذ فان تدمير الحياة سوف لا يهم بالمعنى النهائي الحقيقي.

كتاب (هذه الحياة...) يطرح موقفا قويا من خلال قرائته لكيركيجارد، كارلوف كنسغارد، القس اوغستين، سي اس ليوس وآخرين – لإبقاء تلك الحقيقة في الذهن.

غير ان هذه الافكار الراقية تشكل فقط نصف الجدال. النصف الاخر سياسي. اذا كانت حياتنا المتناهية هي كل ما لدينا، يتبع ذلك ان الزمن هو اساس كل القيمة – وأحسن شكل للمجتمع هو ذلك الذي يعظّم حريتنا كي نستعمل ذلك الوقت كما نرغب. من خلال إعادة الفحص المفصل لكتابات كارل ماركس، يستنتج المؤلف ان الرأسمالية لن تكون ابدا ذلك النظام، طالما هي تتبنى استخدام فائض الوقت الذي تخلقه في خدمة نمو آخر. عندما انت تبيع قوة عملك مقابل اجور فانت تبيع حياتك – والرأسمالية حتى لو كانت تكافئك بثروة كبيرة، فهي دائما سوف تأخذ المزيد من حياتك.

المؤلف، يرى ان الاشتراكية الديمقراطية –ذلك النوع الاكثر راديكالية مما اقترحه ساندر او جرمي كوربن– هي الطريقة الوحيدة لتعظيم ما يسميه بـ "الحرية الروحية" وهي القدرة على تخصيص اكبر ما يمكن من وقتنا لما هو اكثر اهمية لنا.

هذا بالتأكيد ينال الترحيب من الفيلسوف مارتن هايدجر المنهمك في محدودية الانسان والذي اختار النازية. مع ذلك لايزال صوت المعارضة عاليا: كيف نمنع الهياكل البيروقراطية الضرورية لتنفيذ هذه الحرية من ان تجعل الحياة اقل تحررا؟ ماذا نعمل بشأن رغبات الانسان الداخلية مثل التلهف للثروة والمنافسة؟ هل مهمات مثل "المشاركة في جمع النفايات على اساس اسبوعي حقا تصبح شائعة في ظل الاشتراكية الديمقراطية وبشيء من الاخلاص والمعنى؟

لكن من الأفضل ان لانتعامل مع الكتاب كبيان انتخابي. النقطة الاساسية هي ان زماننا القصير هو كل ما يجب الاهتمام به، انت لا تستطيع اخذه معك، وسياستنا تجعلنا نفشل الى المدى الذي نلاحق فيه أي هدف غير هام.

.........................................
الهوامش
(1) كتاب (هذه الحياة، كيف يجعلنا الموت احرارا) للكاتب مارتن هاغلند، صدر عام 2019 عند دار بروفايل بوكس في 464 صفحة. المؤلف وهو اكاديمي سويدي يعيش في نيويورك، استاذ الفلسفة والادب المقارن في جامعة يال.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق