ما آلت إليه الأوضاع العالمية لا تشي بسلامة المنهج الإداري لثروات وموارد المعمورة.. فثمة غبن بيّن يلحق بالشعوب التي لا تزال تتعلق بأذيال الدول المتقدمة.. الأسباب كثيرة ولكن غالبا يوجد سبب رئيس.. التحقيقات والاستقصاء أثبت أن الشركات متعددة الجنسية تستحوذ على موارد وأموال العالم.. وقد نُصاب بالغرابة حين نعرف بأن سبيلها الى ذلك منهج اسمه (العولمة).
فهي تعني جعل الشيء عالمي أو دوليّ الانتشار في مداه أو تطبيقه.. وهي أيضاً العملية التي تقوم من خلالها المؤسسات.. سواء التجارية والتي تكون العولمة من خلالها عملية اقتصادية في المقام الأول.. ثم سياسية.. ويتبع ذلك الجوانب الاجتماعية والثقافية وهكذا.. أما جعل الشيء دولياً فقد يعني غالباً جعل الشيء مناسباً أو مفهوماً أو في المتناول لمختلف دول العالم.. وتمتد العولمة لتكون عملية تحكم وسيطرة ووضع قوانين وروابط، مع إزاحة أسوار وحواجز محددة بين الدول وبعضها البعض.. تعرف مجموعة من الدول الرأسمالية المتحكمة في الاقتصاد العالمي نموا كبيرا جعلها تبحث عن مصادر وأسواق جديدة مما يجعل حدودها الاقتصادية تمتد إلى ربط مجموعة من العلاقات مع دول نامية.. لكن الشيء غير مرغوب فيه هو أن هذه الدول المتطورة على جميع المستويات الفكرية والثقافية والعلمية تدخلت في صياغة أو هيكلة هوية الدول الأخرى وأثّرتْ على بعضها أشد التأثير.
وهناك مقاييس للعولمة حيث تستخدم هذه المفردة للإشارة إلى: تكوين القرية العالمية.. أي تحول العالم الكبير إلى ما يشبه القرية لتقارب الصلات بين الأجزاء المختلفة من العالم مع ازدياد سهولة انتقال الأفراد والتفاهم المتبادل. وتشير المفردة ذاتها الى العولمة الاقتصادية: وتعني ازدياد الحرية الاقتصادية وقوة العلاقات بين أصحاب المصالح الصناعية في بقاع الأرض المختلفة.. ويُشار للعولمة أيضا على أنها تعني التأثير السلبي للشركات الربحية متعددة الجنسيات.. بعد أن استخدامها الأساليب القانونية المعقدة لمراوغة القوانين والمقاييس المحلية للدول الضعيفة وذلك لاستغلال القوى العاملة المتواجدة فيها.. مما يؤدي إلى استنزاف الدول الأضعف في مقابل الاستفادة والربحية لتلك الشركات.
على أننا لا نأتي بشيء من عندياتنا حين نتخطى تأثيرات العولمة السياسية والاقتصادية الى ما هو أخطر وأشد فتكا بالآخر.. ونقصد بذلك العولمة الثقافية التي تعني بدورها الارتباط الثقافي بين المجتمعات والأعراق.. أو بمعنى آخر انتقال الأفكار والعادات من مجتمع إلى آخر.
وحين ظهرت العولمة الى الوجود.. ادّعى مكتشفوها والمروجون لها والمستفيدون منها -الشركات متعددة الجنسيات بخاصة-.. بأنها تعمل في خدمة الإنسانية على نحو متساوٍ.. وراحت تتخفى خلف أقنعة برّاقة تُظهِر غير ما تُبطن.. فهي تقول بأنها تسعى لتوحيد العالم البشري وتذهب الى إزاحة الفوارق وتقليل الفقر.. وتحريك فرص العمل.. وتقديم نموذج ثقافي للإنسان العالمي بفكره الليبرالي الجديد القائم على حرية السوق المطلقة.. وانبثقت فكرة التماثل الثقافي.. وكان الهدف واضحا حيث يكمن الأمر في تعميم التذويب الثقافي وقهر الثقافات الضعيفة وامتصاص خصوصيتها بصيغة كلّية قادرة على أن تنهيها وتشلّها تماما.
وقد وعى المفكر الإسلامي المتميز سماحة السيد محمد الشيرازي ذلك مبكرا.. عندما فصّل واستبق حيثيات تلك المخاطر التي ستنتج عن العولمة الثقافية التي تفوق في أضرارها ما ينتج عن العولمة السياسية والاقتصادية.. فقد ورد في كتاب (الفقه: العولمة) للإمام الشيرازي ما يثبت هذا الفحوى.. حيث نقرأ حول مساوئ هذا النوع من العولمة ما نصه:
(للعولمة الغربية جانبها الثقافي، الذي يبدو أكثر قتامة من جانبها الاقتصادي والسياسي، وإن كان مكملاً لذلك الجانب، فالعولمة الثقافية تهدف إلى السيطرة الغربية على سائر ثقافات العالم، مستفيدة من وسائل الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة التي تنشر بواسطة ما تملكه من إمبراطوريات إعلامية واسعة).
كذلك يستشرف سماحة السيد محمد الحسيني الشيرازي هذه الأهداف المبطّنة للعولمة والقائمين عليها مبكرا.. فقد بدأ هذا الاستشراف العميق قبل عقود حين كان العالم مبهورا بهذا الزائر المستحدث ونقصد به (العولمة).. وفي ذلك الوقت لم يكن المعنيون قادرين على اكتشاف مساوئ العولمة.. كما أن حداثة هذا المنهج جعلت العقول مشغولة بالأقنعة الخارجية وتركت الغوص فيما وراء الظاهر الخدّاع.. وهكذا كان الإمام الشيرازي أول من حذّر من نتائج هذا القادم الجديد وبيّن أهدافه التي تتخفى وراء أقنعة مزيفة.. لها بريق إنساني كاذب.. أثبتته الوقائع الآنية والتداعيات الكارثية التي ألحقتها العولمة بالدول الضعيفة والشعوب المتأخرة.. فالأموال العالمية كلها تجمعت في بنوك وخزائن الشركات متعددة الجنسية.. فيما تعاني أعداد هائلة من الإفلاس والفقر العالمي الذي بات أشد فتكا من أي وقت مضى.
عن هذا الواقع المخيف.. جاء في مؤلَّف (الفقه: العولمة) للإمام الشيرازي:
(إن جوهر العولمة الغربية، لا يكمن في مظهرها، بقدر ما هو كامن في مضمونها، فإنها تمثل المشروع الغربي الحامل للمشروع الأيديولوجي للّيبرالية الجديدة التي ترتكز على قوانين حرية السوق والحرية المطلقة لانتقال البضائع والأموال والأشخاص والمعلومات والثقافة عبر الحدود).
لقد سعت الشركات متعددة الجنسية ومن يديرها نحو نشر قوانين عالمية يجهل العالم نتائجها.. فيما أظهرتها بشكل برّاق يذرع للجميع في الجنّة.. بينما الحقائق تؤكد غير ذلك.. وضمن الخطة الفكرية لمروجي العولمة يجب القضاء على الهويات ذات الخصوصية والرسوخ.. فصارت الهويات الثقافية للدول الأضعف هدفا مباشرا للعولمة.. فأفرغتها من محتواها.. أو حاولت ذلك مع استعمال شتى الأساليب دون كلل أو ملل.. خاصة أن النتائج المادية الكبيرة والربحية الهائلة تستحق القيام بهذا الجهد المضاعف.. فإن ما سيقطفه أصحاب العولمة ويكنزونه من أموال تستحق هذا التعب على مدار الساعة.. وهذا يعني أن الموارد العالمية والثروات القابعة في بطن الأرض ستكون تحت هيمنة مروّجي العولمة الذين أعلنوا موت الأيدلوجيات الأخرى.
وقد نبّهَ سماحة الإمام الشيرازي على ذلك مبكرا.. كما نقرأ في هذا النص من المصدر نفسه:
(العولمة تهدف الى إفراغ الهوية الجماعية من محتواها وتدفع إلى التفتيت والتشتيت من جهة، إضافة لزعمها موت الأيديولوجيات كما تؤكد وتسوّغ هذا الشكل الجديد من السيطرة والهيمنة من جهة أخرى.. ومن الطروحات القيمة التي عرضها الإمام الشيرازي في كتابه (فقه العولمة) والتي تدلّ على عبقرية سماحته ودقة فهمه وتحليله للأوضاع التي سادت العالم هو أنه مع نمو العولمة يزداد تركيز الثروة، وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعاً رهيباً لا مثيل له؛ نلاحظ أن 358 مليارديراً في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان الأرض، أي ما يزيد قليلاً على نصف سكان العالم، وأن هنالك 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الإجمالي، وعلى 84% من التجارة العالمية، ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدّخرات العالمية.
هذه الأرقام المهولة والمحقّقة رسميا من منظمات ذات صدقية راسخة.. دعمت جميع التنبؤات التي قال بها ودوّنها الإمام الشيرازي في كلمات مكتوبة وأقوال معلَن عنها في حينها.. لكن بقيت الجهات ذات العلاقة (نائمة على أذانها) كما يُقال في المثل الشعبي.. أو بالأحرى القيادات السياسية أما كانت تابعة لمروجي العولمة الغربية يأتمرون بأوامر أسيادهم.. وأما هم جهلة لا يعون النتائج التي ستظهر في آخر المطاف بسبب العولمة.. وقد ظهرت اليوم بطريقة فعلية ليكون العالم كله تحت رحمة أنفار قلائل.. أو نسبة ضئيلة ممن يمتلكون الشركات متعددة الجنسية.. حتى بات عالمنا في حالة اضطراب مستدام.. تنقصه العدالة.. ويفتك به التطرف وكنز الأموال لصالح النسبة الأقل من العالم مقابل النسبة الأكبر منه.
اضف تعليق