التسوية التاريخية التي أطلقت من قبل قيادة التحالف الوطني قبل ايام بالشراكة مع الامم المتحدة، من اجل انهاء الصراع السياسي المحتدم على الساحة السياسية والمجتمعية، ضمت في طياتها العديد من الفقرات، وستلعب بعثة يونامي دور الطرف الضامن لتنفيذ بنود هذه "التسوية"، عبر تجميع مقترحات كل الاطراف العراقية لصياغة ورقة نهائية تقوم على حمايتها وتنفيذها، وتعهدت البعثة الأُممية، بحسب المصادر، بالتعامل مع اي طرف يهدد او يعرقل تنفيذها، كما تعهدت بالتحشيد الدولي والاقليمي لصالح المبادرة.
ضمت المبادرة عند طرحها العديد من النقاط ومنها: ان المبادرة –حسب راي القائمين عليها- تمثّل رؤية وإرادة قوى التحالف الوطني لتسوية وطنية تنتج مصالحة تاريخية عراقية، والهدف من هذه المبادرة –حسب المعلن- الحفاظ على العراق وتقويته كدولة مستقلة ذات سيادة وموحدة وفدرالية وديمقراطية تجمع كافة أبنائها ومكوناتها معا، مع تعهد قوى التحالف الوطني بالالتزام ببنود المبادرة بعد الاتفاق والمصادقة عليها، وتعتمد المبادرة على مبدأ التسوية التي تعني الالتزامات المتبادلة بين الأطراف العراقية الملتزمة بالعملية السياسية او الراغبة بالانخراط بها، وترفض مبدأ التنازل أحادي الجانب، ومسار التسوية الوطنية هو مكمّل لمسارات المصالحات المجتمعية التي تُترجم على شكل أوامر وإجراءات وتشريعات تخدم المجتمع بكل طوائفه وقومياته، وهذا هو فعل الدولة بكل مؤسساتها التي قامت وستقوم به بغض النظر عن مسار التسوية الوطنية، فلا يعني تقديم الرؤى والشروع بالتفاوض للوصول الى تسوية وطنية ايقاف عجلة الدولة، بأن مبادرة التسوية الوطنية مسار استراتيجي تستمر معه فاعليات ومسؤوليات ومهام وواجبات والتزامات الدولة تحققت التسوية السياسية التاريخية أم لم تتحقق، ومسار المبادرة يشمل جميع المكونات العراقية العرقية والدينية والمجتمعية، ويمكن المضي به على مراحل ضمن إطار التسوية الوطنية الشاملة.
كما تضمنت المبادرة انه لا عودة ولا حوار ولا تسويات مع حزب البعث أو داعش أو أي كيان إرهابي او تكفيري او عنصري، وتمثيل المكونات والاطراف العراقية يجب أن يخضع للقبول بالثوابت الواردة بهذه المبادرة، تتعهد بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق بتقديم مساعيها السياسية الحميدة بما في ذلك تحشيد الدعم لعملية المصالحة الوطنية من خلال التيسير وتقديم النصح والدعم والمساعدة في تعزيز والدفع بهذه المبادرة الى الامام داخلياً وإقليمياً ودولياً.
لقد مر العراق ومنذ عام 2003 الى الان بالعديد من برامج المصالحة والتسويات السياسية، وشكلت هيئة وطنية للمصالحة برئاسة (اياد علاوي)، وعقد العديد من مؤتمرات الشرف والثقة بين الفرقاء العراقيين، الا ان كل هذه المسميات لم تصل الى نتيجة تذكر، بل ان ما حدث عام 2014 واجتياح داعش لأغلب محافظات العراق السنية كان دليل على فشل كل محاولات التسوية والمصالحة ومواثيق الشرف، لقد تم انتهاك كل الاعراف والتقاليد وكل القوانين سواء الوضعية او السماوية من قبل داعش الارهابي بالتعاون مع العديد من الحواضن في مناطق العراق المختلفة، لقد كانت افعال داعش واتباعه تندى لها جبين الانسانية، ان سبي النساء والاطفال في الموصل الذي تم على يد داعش والمتعاونين معه دل على شيء واحد هو ان كل مواثيق الشرف التي عقدت كانت عبارة عن حبر على ورق، وان لا شرف لمن باع ضميره للأجنبي، وان هذه المواثيق هي صفقات سياسية الهدف منها الهاء الشارع العراقي، وتوجيه بوصلته نحو السراب، ما اعظم عنوانها وحسن لسانها وبداعة اخراجها وهي تطلق من سادة الترف السياسي وقد استووا على العروش يتزعمون مجالس مختلفة الاجناس والالوان بعد ان ترفعوا في الخبرة والمكر السياسي وتفهموا الخيوط التي تدير الاحداث وتأثيرات القوى المحلية والاقليمية اللاعبة في الساحة السياسية وكيف تنطلق المغازلات والتسويات والتصفيات بدون ان تعلن محاور الصراع الاساسية لتبقي ساحة التوافقات مفتوحة لتعيد الصياغات والتوافقات مرارا وتكرارا.
والتسوية التاريخية هي صياغة جديدة بعد ان حبطت كل الاعمال التي انبثقت من تلك المخرجات ومن تاريخ قريب فهل نُسخت الكتل العابرة وقواهرها او جبهة الاصلاح ومشروعها واين هي تفاعلات هيكلة الدولة او مأسسة تحالفاتها وهل عفا الزمن الاغبر عن كوميديا التكنوقراط ومفردات الاصلاح والاعتصامات، والإقالات وعروضها المسرحية والاضراب عن الاكل وصيحات محاربة الفساد، ضاعت الحسبة علينا بسبب تراكم تلك المسميات فكل واحدة منها تشابهت على الاخرى وما عاد العامة من الشعب يعلمون بأي واحدة من تلك الحبال يعتصمون.
ان ما يطرح من مبادرات للمصالحة الوطنية والتسوية السياسية هي اقوال بدون افعال والهدف منها سياسي اكثر مما هو حل للازمة في العراق، وحتى وان كان من يطرح هذه المبادرات جادا بها فان الاطراف الاخرى ومنذ البداية حددت اهدافها ومطالبها وهي تريد تحقيقها مهما بلغت الخسائر، اذ ان ما قام به داعش في مناطق غرب وشمال العراق لا يمكن لأي عاقل ان يقبله مهما كانت الاعذار والاسباب، ولكن المفارقة اننا نرى في تلك المناطق من الاهالي والسياسيين يؤيد داعش وبشكل علني، لهذا فان مصير التسوية السياسية في طريقها للفشل والاسباب هي:
1- عدم جدية الاطراف المشاركة في الحكم للوصول الى حل الزمة العراق، اذ ان اغلب التحليلات ذكرت ان هدف قادة الكتل والاحزاب السياسة هو للأغراض الانتخابية، التمسك بالسلطة لأطول مدة ممكنة، لما توفره لهم من امتيازات وفرص وليس لخدمة البلاد، فقد اعلن ائتلاف متحدون رفضه للمبادرة قبل انطلاق المفاوضات لأنها لا تلبي مطالبهم -حسب قولهم-، وان مبادرة التسوية الوطنية مجرد تغيير عنوان فقط، فسابقاً كانت مصالحة وطنية والان تسوية سياسية، وان التحالف الوطني ذهب الى تغيير الاسم لان كلمة المصالحة اصبحت غير محببة من قبل المواطن
2- منذ بداية المصالحة الوطنية واخيرا التسوية السياسية فان من يطرحها ويقوم بها هم نفسهم من اوجد المشكلة الاصلية، ومن هم سبب الخلاف السياسي في العراق، فلم نرى أي مبادرة للمصالحة او التسوية السياسية تتم بمعزل عن الزعماء السياسيين، ولم تقوم منظمات المجتمع المدني او ممثلي الشعب غير الرسميين من القيام بهكذا مبادرات، وان تمت فان مصيرها الفشل بسبب تدخل رجال السياسة في الامر، اذ ان دعوة الائتلاف الوطني للتسوية السياسية مع زعماء السنة الذين لا يحظون بالتأييد من ابناء مناطقهم بسبب مواقفهم من داعش واعماله، وهروبهم للخارج وترك الناس تلاقي مصيرها بيد الارهاب، هو عامل فشل لأي تسوية سياسية، فقد كان من الاجدر ان يتم استدعاء قادة العشائر وبعض الشخصيات التي ظهرت على الساحة السياسية اخيرا والتي قاومت الارهاب بقوة من اجل اعلان تسوية ومصالحة حقيقية معها، كذلك عدم استبعاد المكونات العراقية الاخرى مثل الكرد الفيلين والشبك والتركمان واليزيدين والصابئة والمسيح من هذه التسوية لانهم المشكلة الاساسية والمتضرر الاكبر من الاحداث في العراق، لهذا فان عدم دعوتهم للمشاركة يعني فشل المبادرة مقدما.
3- ان تأكيد المبادرة على عدم عودة او اجراء حوار او تسويات مع حزب البعث أو داعش أو أي كيان إرهابي او تكفيري او عنصري هو يعني سلفا موت هذه التسوية، لان هدف الإرهاب ومنذ عام 2003، وكل المطالبات تنادي بعودة البعث المقبور وازلامه مرة اخرى للسلطة، وما دعم داعش والارهاب الا وسيلة لعودة البعث المقبور، حتى ان زعيم داعش الارهابي (عواد ابراهيم البدري) والملقب (ابو بكر البغدادي) ما هو الا شخص من اجهزة النظام البعثية السابقة، وقد تم رفض دعوته من قبل تنظيم القاعدة والنصرة الارهابيتين للانضمام للتنظيم، لعلمهم المسبق بأهداف ونوايا التنظيم، لهذا فان أي تسوية مع هؤلاء القتلة تعني ضمنا وعلنا عودة البعث المقبور وازلامه للحياة السياسية في العراق.
4- تشبث اعضاء متحدون بمبدأ المحاصصة الطائفية والقومية الذي رفضه اغلب العراقيين واصبح الغاءه مطلبا شعبيا ملحا، اذ قال اسامة النجيفي في لقاءه مع ممثل الامين العام للأمم المتحدة فب العراق (يان كوبيش)، "ان التسوية العامة ما زالت تحتاج إلى الكثير فإرادة الأغلبية أو دكتاتورية الأغلبية ينبغي أن تتوقف لصالح احترام الديمقراطية وحقوق المكونات مهما صغرت حجومها، وإدانة أي منهج اقصائي لا يحترم حقوق المواطنين وإرادتهم"، وهذا الكلام يعني علنا رفضهم نتائج صناديق الانتخاب والتمسك بالمحاصصة الطائفية، وهو مبدا يتناقض مع الديمقراطية والنظام البرلماني المطبق في العراق، ويتعارض مع راي اغلبية الشعب العراقي.
5- منذ 2003 والى الان والعراق يعاني من اثار الدمار والارهاب البعثي التكفيري الذي قتل وشرد وهجر ملايين العراقيين، وكان اشدها هو اجتياح المد التكفيري العراق عام 2014، وقيامه بمجازر مروعة راح ضحيتها الاف العراقيين وقتل وتهجير وسبي ابناء الاقليات في الموصل، وهذا تم بمباركة ودعم من تريد المبادرة تسوية الامر معهم، وكان شيئا لم يحدث، لهذا ان اقرار المبادرة والتسوية مع المجرمين ستقود الى فوضى جديدة في العراق لأنها ستعطي حصانة للإرهابيين من العقاب، وتعطي مبرر لأهل الدم لأخذ ثأرهم الذي عجز السياسيين عن اخذه، كما ان فشلها اكثر من نجاحها لرفضها من قل اغلب فصائل المقاومة العراقية التي لا زالت تدافع عن حق وشرف وارواح العراقيين.
6- ان تدخل الامم المتحدة في هذه المبادرة يعد عامل معطل لها بدلا من ان يكون عامل حل للمشكلة، لان تصريحات ممثل الامين العام المتناقضة قد جعلت الكتل السياسية تبتعد عن المشاركة في التسوية او تتشدد في مطالبها، اذ ايد الامين العام مثلا مطالب القوى السنية التي تدعوا الى اجراءات عملية على ارض الواقع قبل الشروع باي تسوية، وبهذا فان وقوفه مع هذه الجهة او تلك يعد معرقل لأي تسوية قادمة.
لا يمكن لأي مصالحة وطنية حقيقية او تسوية سياسية ان تنجح في البلاد اذا لم تتوفر لها مقومات النجاح ومنها: ضرورة ان يصاحب التسوية السياسية اقرار القوانين المعطلة وتعديل بعض فقرات الدستور، وتشكيل حكومة وفق الاستحقاق الانتخابي وفق النظام البرلماني الحقيقي المعمول به، واصلاحا للعلاقات مع بعض دول الجوار وتعزيزها مع الاخرين اقليميا وعربيا ودوليا وان تكون التسوية نابعة من الشعب العراقي، ويجب ان تكون مبادرة لإصلاح ما دمر من نفسية المواطن العراقي والقضاء على اي نفس طائفي ولتأسيس حقيقي للوحدة المجتمعية لما بعد القضاء على داعش بلا اي تدخل سياسي، واعادة وتعزيز اللحمة المجتمعية، والتسوية السياسية يجب ان تكون مشروعا مجتمعيا وبتدخل المرجعيات الدينية وخبراء ووجهاء المجتمع وليس بلغة (عفا الله عما سلف)، ونسيان حقوق العراقيين الذين ضحوا خسروا أرواح واموال واعراض، وان لا تكون تسوية على حساب الدم العراقي، وعلى حساب الشرف العراقي، وان وقوف العراقيين كلهم وقفة مشرفة ضد جريدة الشرق الاوسط لإساءتها للعراقيين، فان الاحرى بالسياسيين الذين يدعون للمبادرة ان يتعظوا وينصفوا العوائل التي قتل ابناءها واستباح شرفها وسلبت اموالها بأخذ الثأر من الارهابيين وارجاع الحق لأهله قبل طرح مبادرات اقل ما يقال عنها تسوية خضوع واذلال لا اكثر ولا اقل.
اضف تعليق