حينما نقوم بجمع مقولات الكتاب وعلماء الاجتماع الغربيين حول راهنهم القائم على تبني الفكرة المادية، نتحصل على رؤية موحدة تجاه مختلف الأصعدة التي تمت دراستها، وهذه الرؤية ستؤكد أن حالة من الاضطراب الفكري هي التي تسود، وبالتالي ستجعل المصير المستقبلي لحضارة بنيت على المتناقضات مصيراً مضبباً.
يقول العالم الألماني أريك فرام: "العالم الغربي في طريق مسدود، لقد حصل على الكثير من الأمور الإقتصادية، وفقد أي معنى وهدف في الحياة، المجتمع الغربي مثل أي مجتمع آخر في الماضي، لابد من أن يفقد حيويته وقوته الداخلية ".
إنَّ هذه الرؤية التشاؤمية للعالم (فرام) لا تُشخص فقط، بل انها تتنبأ بفقدان الحيوية والإصرار على الحياة؛ لانعدام المبررات والأهداف التي تسمو بالإنسان، ليعيش في أجواء تتيح له التمتع بقيمة الحياة، لكن هذا ليس حاصلاً حتى مع المكتسبات الإقتصادية، والتي قد تمحى آثارها شيئاً فشيئاً؛ نتيجة انعدام الهدف الحقيقي، واستمرار الإضطراب الذي لايمكن للإيديولوجيات المتناقضة إلاّ أن تكون جزءاً كبيراً منه.
ويبدو أن الغربيين توصلوا إلى أنهم أفرطوا في التفاؤل بمستقبل اعتقدوه مضيئاً، في ظل أمواج التقادم التكنلوجي، والتبشير بالديمقراطية، وراحوا يبحثون عن العوامل الرئيسة التي أدت إلى نشوء نظرياتهم ومفاهيمهم، قبل أن يكتشفوا إن حالة عدم التوازن الواضحة في التقدم السريع بين الإقتصاد والتكنلوجيا ستفرز - حتماً - خطراً مصيراً مجهولاً.
وفي رؤية اقتصادية واجتماعية، يقول العالم (باون) وهو أستاذ علم الإجتماع في جامعة ( جورج واشنطن ): " إنَّ الفساد السياسي، وحاكمية نظام اقتصاد السوق، والنظام الإجتماعي الأمريكي اللاأخلاقي، ستغرق أمريكا في وحل الزوال".
هنا نجد نبوءة أخرى تخلص إلى انهيار اقتصادي؛ بسبب فساد النظام السياسي، فضلاً عن جانب مهم لايُلتفت له كثيراً في العالم الغربي، وخصوصاً في أمريكا، وهو الجانب الأخلاقي، ماجعل قلق الغرب يتفاقم بشكل سريع، بعد التوهم بأنَّ تطور التكنلوجيا، وصراع النظريات، سيسهمان في تقدم ورقي الوجود البشري، وكالعادة، العكس هو الذي حصل.. فارتفعت الأصوات؛ لإدراكها أن الإحتياج الأكبر للإنسانية، لايمكن أن تملأ التكنلوجيا مساحته الشاغرة والمتسعة مع التقادم الزمني؛ لثبوت قصورها وعدم فاعليتها في معرفة حقيقة الإنسان، واحتياجاته الرئيسة، وأهمها الشعور بقيمته الحقيقية، ودوره في هذا الكون الواسع، فضلاً عن الجانب الأهم وهو الجانب الأخلاقي.
ويقود الإعتراف بالمستقبل الغامض للعقلية المادية إلى الدفع باتجاه البحث الجدي؛ للحصول على نمط آخر من التفكير، يمكن له أن يصحح أخطاء المراحل السابقة، وبهذا التصحيح يمكن تفادي السقوط النهائي.
هذا المعنى أشار إليه الإمام المجدد السيد (محمد الحسيني الشيرازي قدس سره) في كتابه الموسوم (فقه المستقبل) بقوله: "فرق بين السقوط والتصحيح، فكما أن المعنويات لا تتمكن أن تحلق بجناح واحد، كذلك الماديات، فإذا كانت روح فقط احتاجت المادة، واذا كانت مادة فقط احتاجت إلى الروح، نعم الغرب قد يضعف بمرور الزمن لو أصر على أخطائه ومن أكبرها الإستعمار والسلاح، لكن ذلك قد يستمر لأكثر من العقود المنظورة، وإنما نقول ذلك ؛ كي لايركن المسلمون إلى سقوط الغرب فيتكاسلوا عن العمل بجد ونشاط منتظرين يوم سقوطه ".
وعندما تم الإشارة هنا، او في أماكن أخرى، عن بديل إسلامي حضاري نعتقده الحل الأفضل لمشكلات الإنسان، لابد للمسلمين كذلك تأكيد أحقيتهم في صياغة المستقبل البشري المشرق، مستندين على الجانب الروحي، وهو من أهم الأشياء التي تفتقر إليها الحضارة الغربية، والتي تبدو عارية بحاجة لقميص يسترها، غير أنها لم تعرف ماهو هذا القميص الساتر، أو عرفته لكنها أنكرت حاجتها إليه بمكابرة لافائدة منها، فضلاً عن الإنسجام التام والكامل مع الإسلام بنسخته الحضارية الأصلية وغير المحرفة، ممثلاً بمعطيات القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأكرم وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، حيث الوعي والإدراك، ثم وضع الخطط والبرامج التي تنسجم مع روح العصر ومتطلباته.
إذن، المصارحة والاعتراف بالخطأ جزء من عملية تصحيحية تساعد في حل المشكلات، بينما يكون الإصرار على الخطأ، والإبتعاد عن نقد الذات أو الفكر، والإعتقاد بحتمية الفكرة، وكأنها الحقيقة الوحيدة المُسَلّم بها، فإن ذلك سيكون قريباً من مفهوم (أخذته العزة بالأدلة)، لابد من جناحين تتم بهما عملية الطيران ؛ وإلا فالسقوط هو النتيجة الحتمية والأكيدة.
المستقبل للعدل والمساواة والحرية
عندما استعرضنا المقولات المتنبئة بفشل المنطق المادي، والمتخوفة من غموض المستقبل، رأينا أن مخاوف الغربيين تركزت على تراجع القيم الأخلاقية لدرجة التلاشي، مقابل انحياز كامل ومخيف لاقتصاد لم يحقق التوازن المعيشي للأفراد، مدعوماً بأنظمة سياسية جعلته في سلم أولوياتها، والإيقاع الذي يتحرك عليه شكل العلاقة بينها وبين مواطنيها، فانخفضت لذلك الإنحياز قيمتا العدل والمساواة.
وفي تراثنا الإسلامي الكبير، نجد أن قيمتي العدل والمساواة جاءت بأشكال متعددة مايعكس أهمية كل منهما كما في (الناس سواسية كأسنان المشط)، أو في المقولة الخالدة لأمير المؤمنين (عليه السلام) والمعتمدة لغاية اليوم في المنظمات الدولية وهي : " الناس صنفان : إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق ".
مثل هذا التراث العظيم يمكن أن يقدم انموذجاً متفرداً للعدالة الإجتماعية، وهي - بلاشك - من مرتكزات تحقيق العدل والمساواة، مضافاً لها مفهوم الحرية.
وللحرية في الفكر الإسلامي مساحات واسعة توزعت على المعتقدات وفق المعطى القرآني"لا إكراه في الدين "، وكذلك على حرية التعبير والصرخة بوجه الديكتاتورية واعلان الرفض لها، وتأتي ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كأنموذج لامع متجدد يسمو على كل التجارب الثورية الناصعة في التأريخ العالمي ؛ لأن هذه التجارب اصطدمت بمتبنيات مختلفة انطفأت على المستوى التنظيري من جهة، وعلى مستوى إقامة أنظمة عادلة من جهة أخرى، فظلت الثورات التي تنتمي لها، وقامت باسمها وعلى منهجها، مجرد ذكريات ومعلومات تأريخية. لكننا نرى في الثورة الحسينية ورغم ابتعادها الزمني الشاسع عن التجارب الثورية اللاحقة متجددة، بل وتلهم الأجيال على استلهام دروسها وعبرها التي أفرزت صورة نادرة من صور تكامل القيم الإنسانية ؛ كونها تمثل امتداداً خالصاً لفكر لو تم الأخذ بمضامينه الحقيقية ؛ لما كان للخوف على المستقبل الحضاري للعالم الإنساني أي حضور.
اضف تعليق