ظلت نزعة الإنقياد للعقل الغربي، والإنبهار بماقدمه من مفاهيم، هاجساً يعتمد الغموض المتطرف والقائم على المخاتلة غير الإبداعية، عند أغلب المتصدين لحقلي النقد والفكر في عالمنا العربي، ظناً منهم أن نزعتهم الإنقيادية هذه ستقدمهم على انهم عميقو فكر ومعرفة.
صحيح أن الحداثة لاتعني التماهي مع راهن زمني ومكاني معين، وصحيح أيضاً أنها تدعو لصياغة مفاهيم جديدة، إلا أن ذلك لايعني بالضرورة بتر السياقات المتعلقة بالتراث، بل يمكن الإنطلاق من تلك السياقات في عمليات جادة لتأسيس نظريات حداثية، وهو مالم يحصل في الخطاب العربي في جزء كبير منه، وهو مايعكس غياباً أكيداً للمنهج النقدي، ماينسحب لتغييب الهوية الثقافية والفكرية في التعاطي مع الحقول التي تحتاج الإضاءات النقدية التقويمية والقراءات الواقعية، وأمام هذا الغياب، سيطر المنطق النقدي الغربي الداعي لإبعاد المُسَلَّمات.
النموذج الأدونيسي
يعتبر الشاعر والناقد السوري علي احمد سعيد اسبر (ادونيس)، من رواد الحداثة النقدية والفكرية والأدبية، والتي اقتحمت الفضاءات المعرفية بأنساق فلسفية تسعى لتأسيس ريادة نقدية، غير أن هذه الريادة تفهم الخصوصيات من خلال منظور غربي يُغيب الخصوصية أصلاً!.
لقد فهم ادونيس من القرآن والتراث العربي المكتوب (شعر/حديث) على أنه لايصلح إلا بوصفه أساساً للتجاوز والتخطي، لا للإنسجام والخضوع بغض النظر عن ثوابته ومقدساته1.
كما تجسد النموذج الأدونيسي في محاولة استنطاق التراث العربي عبر العبث بمسلماته وتجاوزها بشكل غير واقعي او موضوعي، فكانت رؤاه تمثل العداء لكل ماله صلة بهذا التراث.
رؤية ادونيس في ضرورة أن يبدأ الفكر العربي بالتفكير فيما مالم يفكر فيه سابقاً، ومخر عباب المكبوت التأريخي، خلت من الآليات التي يمكن اعتمادها كتطبيقات، فظلت أسيرة التنظير من دون أية محاولة لارتقاء سلمة واحدة من سلالم المنهج التطبيقي، وقد اعترف ادونيس نفسه بهذا الموضوع في كتابه (كلام البدايات) الصادر عام 1889 بقوله : " إنني شخصياً لاأجرؤ على أن أمارس مثل هذا الفكر، وإنني لاأجد عربياً واحداً يمتلك مثل هذه الجرأة ". ومن هذا الإعتراف، يمكن أن نخلص إلى أن الطموح الأدونيسي كان في تحقيق ريادة تنظيرية بدون آليات للتطبيق، فقط ريادة تهشم الخصوصية غير خاضعة لمنهج نقدي محدد، مع أن الرجل -ادونيس - عبّر في أكثر من مناسبة عدم التزامه بأي منهج.
ولعل الموقف المتشدد تجاه الموروث الإسلامي، أو حتى الأدبي، وفق طروحات ادونيس، يعكس شرخاً هائلاً في المنظومة الفكرية العربية، تقنّع بأكثر المصطلحات إشكالية وهو الحداثة.
المصطلح..إشكالية الضيق والإتساع
في كتابه (أبواب ومرايا) يقول الناقد خيري منصور : " الحداثة من أكثر المصطلحات تداولاً في كتاباتنا اليوم، وهو العنوان الأكثر إلفاتاً للنظر…، وماكتب حتى الآن تأليفاً وترجمة عن الحداثة يزن الكثير.. فهل استطاع هذا الكثير إيضاح معنى الحداثة للقارئ العربي ؟ ".
قد يجعلنا تساؤل خيري منصور نصل إلى أن نقول أن مصطلح الحداثة ضيق وفضفاض في آن واحد، ويحتمل من الشروحات المتعددة مايجعله يتراوح بي الغموض والوضوح سابحاً في جدلية تعدد التأويلات التي تشعل صراعاً بين الحفاظ على شرقية المنجز الفكري / الثقافي، وبين الإنفلات (الحداثي) من هذه الشرقية، والإلتصاق بالمناهج الغربية المستوردة بذريعة الكشف عما هو بحاجة إلى كشف. وبهذا الصراع المستمر، دفعت المنظومة الفكرية ثمناً باهضاً نتجت عنه عمليات الإحجام عن استشعار الخصوصيات، بعد أن فرضت عليها عملية عدم الفهم أو الشرح المنطقي للمصطلح واقعاً جديداً مربكاً.
إنَّ أهم مشكلة واجهت الفكر العربي في فهم المصطلح - أي مصطلح - تمثلت في الغموض الذي سيعكس منهجاً نقدياً غامضاً يكشفه ويشرحه ؛ لأنه فاقد تماماً للصلة أصلاً بسياقاته التراثية، من خلال إكسابه دلالات تنسجم مع البيئة التي نُقل منها إلى بيئة أخرى ذات فهم مغاير، مع الأخذ بنظر الإعتبار عدم قدرة العقلية العربية على إنتاج مصطلحات بخصوصيات محلية، وأفكار غير مستوردة.
الهوية الإنسانية
يمكن انهاء الجدل الحاصل بين قطبي الحداثة والأصالة من خلال الركون إلى الهوية الإنسانية الجامعة ؛ كونها الثابت الذي لن يتغير، وكذا بالنسبة لحقائقها وثوابتها التي تحث الإنسان على ممارسة الفكر والحضارة والإقتصاد بطرق متجددة، مع الحفاظ على الثوابت التي لاتخضع لأي تغيير ؛ لأن التغيير سيحدث خللاً في بنية الهوية ذاتها، وإن التغييرات والمستجدات الحاصلة في الأفكار، ماهي إلاّ ثمرة من ثمار الحفاظ على جوهر الهوية الإنسانية، فالتجدد الذي ينشده الإنسان، لابد أن يمضي في طريقه الصحيح بارتكازه على الهوية، ويتجنب كل مايحدث شرخاً فيها، لا أن نجعل من الحداثة إشكالية تصطدم بمفاهيم وثوابت، فيكون الدوران في دائرة الإلتباس هو المنطق السائد، دون الوصول لحلول منطقية لهذه الإشكالية، فالهوية جزء لايتجزأ من فطرة الإنسان ولايمكن لأية حداثة أن تستمر مع تحييد دور الهوية، والتمرد على ثوابتها ؛ لأنها تعكس الإستمرار والديمومة.
وللهوية ثلاثة مستويات : فردي، وجماعي، ووطني، وعلى الإنسان أن يكون له وعي بهذه المستويات وكيفية المحافظة عليها، والعمل على التفاعل مع أي جهد وفكر ينميها، فهي لاتتحدد بمجرد الإنتماء أو النشأة، بل من خلال العمل الخلاّق والإبداعي الذي يضمن حلول التعايش بدل الصراع، والتفاهم محل التصادم، بغض النظر عن حجم المساحة التي تشغلها هذه الهوية أو تلك.
وهذا لن يحدث مالم تتم بلورة خطاب ثقافي وحضاري، ينأى بنفسه عن أي إرث ثقيل، خطاب يحمل الأمل بإطفاء الحرائق التي تشتعل بفعل المناهج المستوردة، والذائبة في صراع الأدلجات المتشربة بتناقضات السياسة. وأمام أي إخفاق في بلورة الخطاب الفكري المعتدل، في الجزئية المتعلقة بصراع الهوية، سيستمر غياب الخصوصية المخيف وهو مالانتمناه.
اضف تعليق