مع كل حدث يلقي بظلاله التي تزيد من سوداوية الراهن، ترتفع الأصوات المنادية بتشريع قوانين جديدة، أو تحديث قوانين قديمة ركزت على قيم التعايش السلمي بين المكونات المتعددة، فهذه القضية ولحد هذه اللحظة مرتبكة في مراوحتها بين خصوصيتها المحلية والعالمية، وعدم وجود ضابط حقيقي لتنظيم خصوصيات الأقليات والإثنيات المنتشرة هنا وهناك.
إن الإندماج في منظومة ثقافية واحدة، وبلورة خطاب متوازن يحافظ على الهوياتية ويحترم خصوصياتها، كفيل بتعزيز التعايش الحضاري والسلم الأهلي، وإنتاج أفكار جديدة وأساليب حياتية متجانسة. لكن ذلك لايعني أن يكون الموضوع محصوراً في إطار الدراسات والبحوث، بل يجب تعزيزه بسلوكيات تطبق عملياً ماأنتجته الأفكار.
لكن، هل الواقع الحالي يتوافق مع هذه الصورة الخيالية ؟ وخصوصاً مع التهاب المنطقة بحروب مصيرية ضد الجماعات التكفيرية الإجرامية التي فتكت بكل القيم الإنسانية والحضارية، وأدت تداعياتها إلى انخفاض مستويات التعليم وتدهور الحالة المعيشية ؟ بالتأكيد ان الواقع يقول أن الفرد أصبح عرضة للإندماج الكامل بجماعات العنف والتطرف ؛ كونها ستعوض عوزه الإقتصادي مقابل أن يتجند لها آلةً مطيعة وجاهزة للعمل متى أرادت تلك الجماعات.
الواقع الحالي للأسف الشديد وخصوصاً في مجتمعاتنا، يقدم لنا صورة قاتمة عن المجتهدين في توظيف السياسي للعصبيات القبلية والنزاعات المذهبية ؛ لتكون بنكاً ذا رصيد كبير يدر عليها مديماً مشاريعها واستثماراتها، هذا التوظيف السيء، يعمل وبمنهجية على تغييب ركائز السلم والتقارب في المجتمعات المتنوعة، وصولاً إلى اقتتال أهلي وفق أنساق مرتجلة تخاطب العصبيات لاغية أي حضور أو دور للعقل.
كذلك تلعب الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع دوراً في زيادة وتعميق التفاوت، الأمر الذي ينذر بتقلص مساحات التعايش السلمي، وهنا طبعاً يأتي دور الدولة في تحمل مسؤولياتها، وتأمين مستلزمات العيش الكريم للمواطن، وبذلك تضمن تحقق التوازن الإجتماعي من بوابة الإقتصاد، فالتعايش الحضاري والسلم الأهلي يكونان بلا قيمة حقيقية طالما لم يتم الإلتفات لتقليص الفوارق المجتمعية.
الفعل الثقافي
في ظل هذه الصورة القاتمة رغم واقعيتها، وانطلاقاً من أهمية الفعل النخبوي والثقافي، وإيلائه دوره الطبيعي الذي يجب أن يلعبه في تنمية التعايش السلمي تنمية حضارية، تزيل عنها عقدة التسميات والإنتماءات الضيقة، لابد أن يأخذ المثقفون دورهم على صعيد الأفراد والمؤسسات في عملية البناء المجتمعي، من خلال تأصيل المشاركة الثقافية، والتصدي لموجات الإرهاب بكل أنواعها، والتي عبثت بالقيم الإنسانية والحضارية، او الضغط باتجاه تشريع القوانين التي تحمي السلم الأهلي.
ولايجب أن ينحصر فعل النخبة الثقافية في إطار عمل تقليدي يقتصر على تنظيم المهرجانات والملتقيات، الأهم رفع الصوت عالياً في مجالات صار من الضروري الإلتفات لها وإضاءة ملابساتها بشكل جدي إذا أردنا بناء مجتمع بعيد عن التناقضات، تبدأ من الإهتمام بالمؤسسات التي تعنى بتنشئة الأجيال وتعدهم للمستقبل، وأهمها طبعاً المؤسسة التعليمية، والدفع باتجاه إعادة صياغة برامجها ومؤسساتها بما ينسجم والواقع الجديد والمتطور ؛ لكي ننأى بأبنائنا عن التشظي بين معلومات تأريخية مغلوطث تزخر بها كتب التأريخ والتربية الإسلامية، وبين الحقائق التي حجبتها تلك المعلومات، نحتاج لمناهج علمية رصينة تهتم بالعلم والتقدم.
نزول بعض النخب الثقافية من الأبراج الوهمية التي صنعوها لأنفسهم والإندماج بمعاناة شعوبهم، والتركيز على النقد البنّاء بعيداً عن الهجومات التي لن تنفع بشيء وتقدم المثقف وفعله بصورة مشوهة، كفيل بأن يعيد الثقة بين المجتمع والنخب.
ومثل هذا، لابد ان تعنى المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات، وتستنفر الجهود في مجالات التنمية البشرية وتقدم الحلول التي ترافق التساؤلات من خلال ورش عمل، ومؤتمرات جدية غير شكلية، تبحث في موضوعات الحرية والتعددية والهوية لإدامة مفهوم التعايش، وبمعطيات واقعية غير خيالية.
الرؤية الإسلامية
يرى المجدد الثاني السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)، أن تنمية المواهب والتربية الذاتية، وصقل الشخصية وشحذ النفس، من الضرورات التي تحقق الوصول لقيمة مجتمعية مقبولة، وذلك عبر عدة أدوار تقف الأخلاق في طليعتها، فالسلوك الأخلاقي يلقي بظلاله سلباً وإيجاباً في هذه القضية، ولابد من قلع جذور الأنماط الأخلاقية الفاسدة التي تعيق حركة التعايش والحضارة، وبعد ذلك يتم الإنطلاق جدياً لعملية بناء الذات وتهيئتها لدور فاعل في خدمة المجتمع وفق الأسس الصحيحة. ومن المؤكد أن بداية هذا الدور لابد أن تكون من العائلة والتنظيم الأسري الذي يأخذ على عاتقه مهمة التنشئة الأولى للفرد ، حيث يعبر السيد الشيرازي عن الأسرة في الإسلام بأنها " خلية إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية، ولكن الإستعمار بعد أن غزا مجتمعاتنا الإسلامية دمر هذه الخلية لأنه يعرف أن هذه الأسرة إن ظلت على طبيعتها وقدرتها وتركيبتها فإنها ستكون قادرة على مقاومة التيارات الخارجية ".
هكذا تكون الرؤية الواقعية، وهكذا يكون منظارها للأحداث، إن الواقعية تحتم علينا الإلتفات إلى الصراع مع القوى التي تريد نسف قيم التعايش الحضاري والسلم الأهلي، عبر التشدق بمفاهيم بعيدة ولاتنسجم مع خصوصياتنا وهوياتنا، فبدلاً من أن يكون التنوع والتعددية عوامل لصنع الإستقرار وتبادل الثقافات والتعرف على الحضارات كما في قوله تعالى " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا "، تستخدم القوى الخارجية هذه المفاهيم لضرب التنوع الهوياتي ؛ من أجل إدامة مصالحها التوسعية وإن ارتدت ثياب الديمقراطية وحرية التعبير وغيرها.
لابد من امتلاك القناعة الراسخة بأن المجتمعات التي تعتمد المقاييس الصحيحة بإطار المصالح العامة لا الضيقة، يمكن أن تصل إلى مستقبل مشرق، من خلال تسخير الطاقات الفكرية والثقافية من جهة، والقدرات المادية من جهة أخرى، وفق رؤية بعيدة المدى لاتستند للأمنيات والأحلام، فالبناء الحضاري يحتاج للجهود والعمل المتواصل والدؤوب " وأن ليس للإنسان إلا ماسعى وأنَّ سعيهُ سوف يُرى / النجم 39 و 40 ".
ويمكن استثمار الخصوصية الأخلاقية الإسلامية بهدف الحصول على نموذج مضيء للتعايش، خصوصاً من منطق اللاعنف النابع من المفهوم الإسلامي الحقيقي الأشمل للبشرية، والمرتكز على خطاب معتدل،" وجادلهم بالتي هي أحسن ".
التعايش والعولمة
ليس من الصحيح التسليم بالنظرة الغربية التي تنظر إلى الأشياء وفق سلطة المادة، إنَّ هذا الإقتصار لن يحقق طموحات البشرية، فالنظرة المادية القاصرة ستحقق ازدهاراً مؤقتاً لبعض على حساب بعض آخر، بل انها تنفي المحورية الكونية للإنسان " أتحسب نفسك جرم صغير / وفيك انطوى العالم الأكبر "، وتسيطر عليه عبر أجندة إلكترونية ومعلوماتية نافذة، فتجعله أسيراً منقاداً لتقنياتها ورغباتها ؛ وبالنتيجة يتلاشى دوره الحقيقي لصالح النزعة الغربية التدميرية.
لذلك لابد من إعادة الإعتبار لكرامة الإنسان المهدورة، والتشجيع على تنمية الحوار وصولاً لقبول الإختلاف الذي لن ينتج عنفاً أو تهميشاً او مصادرة، فنخلق تعايشاً حضارياً ينطلق من عالمية الإسلام غير المنحازة لطرف على حساب آخر، حيث لاسلطة مطلقة للمادة، ولاسلطة مطلقة للجانب الروحي، انما مسك العصا من الوسط هو المنهج الذي يقود لتحقيق التكامل الإنساني.
لابد لقضية كبيرة وحيوية ملتصقة بالواقع المعاش كقضية التعايش، أن تتكون لها رؤى وتنظيرات منطقية تحلل بعمق الأزمات ومسبباتها التي تؤدي إلى نسف التعايش عبر منطق (تضخيم اللاعقلانية)، ومعالجة أمراض تشرذم المكونات المجتمعية المتنوعة، بين هوية جمعية غائبة وخصوصية تتآكل عبر الإيديولوجيا.
اضف تعليق