هذه القصة القصيرة تخليدا لملاحم بطولة افراد من الحشد الشعبي المقدس ومستنبطة من الواقع في جبهات القتال ضد زمرة داعش التكفير.
وكتبها الكاتب بصيغة ادبية ضمن شروط وقواعد كتابة القصة القصيرة وشاركها في مسابقة كلنا حشد التي اقامتها الامانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة قسم الاعلام وحاز على شهادة شكر وتقدير في الاحتفاء الذي اقامته الامانة المذكورة بتاريخ 31|5|2016.
(1)
كان غريبا أن يسأل فلاح مثله إنساناً مثلي لا تربطه به صداقة ويحدثه عن ما رآه في نقل جسد شهيد من قبر الى آخر، وكان يظهر على وجهه الذي يتلألآ كالشمس وعينيه النجلاء الواسعة أثر سؤال يحمل بين ثناياه تساؤلات تحمل ندوب الشهقات، فاستمات لمعرفة الجواب، وكأنه يقول ذاك انا.
وطالت دهشتي وأنا أحدق في الفلاح الشاب، فأسرعت في الإجابة. وتحسست سبلاً كثيرة لهدايته وأنا أقول رحمه الله، رائحة المسك تفوح من جسده رغم دفنه منذ شهرين!
وأعلل الفرق بين الشهيد ومن مات حتف انفه، فقلت وكأنه مدفون منذ ساعة، ثم نتناقش معا، وكان يميل لمعرفة فائدة الشهادة الى المجتمع، فوصفته كالشمعة التي تحترق وتفنى لتضيء الطريق للآخرين.
استنشق نسيم هواء القرية العذب بأنفه الطويل يوزع نظراته ببريق عينيه السوداوين ما بين النخلة والزرع، وينظر الى براءة الطيور المحلقة.. يبحث في ذهنه عن علة بقاء جسد الشهيد وكيف تأكله الارض؟
ولكني نجحت أخيراً في قولي، فذكرت بأن روح الشهيد بلغت درجة ومنزلة من السمو والطهارة حيث يترك هذا السمو والطهر آثاره على جسده ودمه، وعلى ما يرتديه من لباس، فجسد الشهيد ولباسه اكتسبا الشرف من طهر روحه وعلو فكره وسمو تضحيته.
ـ رد قائلا:
إنها طاهرة الروح.
ـ فقلت: نعم.
استأذن، ولست أدري ما دار في عقله، فما كنت أرى أفكاره وقد حجبها عظم ولحم الرأس.
كل ما حدث تبسم لي قليلا ليوحي بأنه وجد ضالته، ثم مضى وهو يدعو بكلمات لم تلتقط أذني منها إلا هذه الكلمات فأُطالبكَ ياربّ أن ترزقني شهادةً مُطَهِّرَةً أنا اخترتُها لنفسي كفارةً عن ذنبي.
ولم يستدر نظري عنه وهو يخترق الارض الزراعية المزدحمة بالأشواك، ولا عن ثوبه الأنيق الذي يشبه لون الكفن، او حتى عن قدميه اللتين كانتا تخطوان خطوات ثابتة من ذيل الثوب كطابوق صلب.
وأراقبه في عجب وهو ينشب رجليه الطويلتين كساقي زرافة في الارض، ولا يهتز وهو يتحرك.
راقبته طويلا حتى أتعبني كل دقيقة في مسيره، فقد كنت أتـوقع في كل ثانية أن يعود فيسأل؟
وأخيراً استطاع الفلاح الشاب أن يخترق الارض دون العودة بسؤال آخر.
واستأنف سيره في بستان، وقبل أن يختفي بين الأشجار شاهدته يتوقف دون حراك. وكاد ثعبان يقتلني وأنا أسرع لمعرفة ماذا حدث !
وحين وصلت كان يقف ثابتاً على ما يرام يتفرج على منزل الشهيد ويتابع أطفاله، وهم يلعبون ويضحكون بكل سعادة. ولم يلحظني، ولم يتوقف كثيراً، فمن جديد راحت ساقاه تمضيان به، وقبل أن ينحرف، استدار الى الخلف على مهل ينظر لي بالفتحات الكبيرة الداكنة السوداء في وجهها، وألقى نظرة طويلة على وجهي، وحرك شفتيه العريضتين الحمراوين، وقال:ـ
أين هو الان؟
ـ كانت إجابتي بسؤال...
من؟
تلعثم الفلاح وطرق هُنيئة، فأجاب:
- اقصد الشهيد.
ـ قلت حسب الآية (ولا تحسبن )...عند ربّه حيّ يرزق.
ـ رفع كفيه وتلفظ هنيئا له، اللهم اجعلني عندك.
وأردف...
أسألك يا أخي.. واقسم عليك بدم سيد الشهداء أن تلحقني بركب الحشد الشعبي.
تأملت في قوله، فقلت بأذن الله. واتصلت من جوالي بالقائد، فأمرني أن أزوّده برقم هاتفه.
وأبلغت الفلاح بأن لا يحدثني عن ما يجري بينهم من حديث حول لقاء، او تكليف، او تدريب!
ـ استغرب الطلب بكلمة لماذا؟
قلت: هذا مبدأ، فالمعرفة على قدر الحاجة، ولتقديس أسرار الجهاد.
ودعته بشعور مفارق، جسد لا يرى جسد أخيه مرة أخرى، وربما تلتقي الأرواح، فودعني بحرارة غامرة بالبهجة والسرور.
(2)
بعد شهرين وفي صباح سبت كنت في جبهة جرف الصخر، فاستدعاني القائد، وابلغني بالتحاق المجموعة الجديدة التي ستكون بإمرتي. وطلب أن اذهب معه ليعرفنا على بعض.
ونحن نتخطى إليهم، فجأة رأيته معهم...
رفرف صدري كجناحي العصفور، وزقزق قلبي فرحا، وهفهف البطينان مرحباً.
وبدأت كما لو كنت استعيد لحظة اللقاء والحديث معه عن جسد الشهيد في شريط سريع وأنا أراه.
ـ نظر القائد إليّ، وقال صاحبك الفلاح.
قلت: لم أتوقع ذلك. وسألته كيف هو في التدريب؟
رد... كالأسد الضاري عندما يقتل اسود.
نهض من بين المجموعة، فأقدم يجري إليّ سريعا، وأسرعت إليه، فتعانقنا عناق أجساد.. كأخ لم يرى أخيه منذ سنين.
وردّ يقول بعزة:
ـ رأيت فيك رؤيا فجر اليوم.
ـ فنطقت.. ماذا؟
ـ سالت قطرات من دموعه على خديه وهو يقول جسدك يتذرى بالهواء.
ـ تدخل القائد بأحسن القول ذلك مصير كل من تربّى بحجر ثورة سيد الشهداء.
ـ فدعوت... أسال الله أن يكون ذلك.
سار بنا القائد نمضي الى الأخوة بخطوات حتى وقفنا تحت شجرة الزيتون، فعرفنا ببعض وأمرهم بالطاعة، ثم ذهب وتركني معهم.
وبدا لي من أول الأمر إيمان وشجاعة المجموعة واستهانتهم بالعدو، وإصرارهم على النصر والشهادة.
لا اعرف ما حدث لي عندما رأيت حماستهم بانفعال، ولكن الشيء المؤكد قررت احتواء انفعالهم.
طلبت أن يجلسوا على حشائش الارض حيث ظل الشجرة التي أقف تحتها.
بدأت اسأل كل فرد منهم عن سبب تطوعه؟
فاجمعوا على رأي واحد هو الشهادة.
ـ فقلت: من يبحث عن لقاء المعشوق، فأكيد يقدم الدم والروح كهدية.
صاحبي يصغي ويحلل كلامي، وبعد أن أكملت العبارة شعرت بأنه سيكملها بكلمة.
ـ نطق: وجسده.
ـ ذلك صحيح، ولابد أن تكون الهدية ثمينة.
ـ ثمينة !
ـ نعم، نتعب العدو في وصوله إلينا، ونختار الموقف بدقة في تقديمها.
قضيت ساعة معهم كأنها لحظات، واتفقنا على موعد الغداء بعد صلاة الظهر في ذلك المكان، وذهبوا مجاميع حسب التقسيم كل ثلاثة أفراد الى نقطة.
طلبت من الفلاح الشاب أن يرافقني في رحلة الاستطلاع لغرض رصد مواقع العدو الذي يبعد عنا كيلومتر واحد في منطقة الفارسية.
(3)
رحلة ساعة
دخلنا الغرفة الصغيرة المتنقلة وخلعنا الملابس العسكرية لنرتدي ملابس سوداء تشبه ما يلبسه العدو.
عرفت لمرافقي ما سنقوم به خلال وقت محدد وسبقت التعريف أثناء لبس الملابس الجديدة بأن الحذر مهما بلغ أوجه لا يمنع القدر.
ـ ردّ صديقي بقوله:
كنت أتمنى أن استشهد بملابسي الأولى.
ـ رأيت من واجبي تذكيره برؤياه بي فجر هذا اليوم، فقلت بالنسبة لي لا يفرق معي لان جسدي سيتذرى بالهواء.
ـ تبسم وهو يقول عندك يا أخي لكل سؤال جواب.
كانت الأفكار مركزة في ذهني عن هذه الرحلة، وانتظر سؤال صديقي عن الهدف منها.
وحين خروجنا من الغرفة تفوّه مستفهماً؟
ـ هل استطلاعنا دفاعي؟
ـ تأملت قليلا، فقلت: كلا بعده سيكون هجوميّاً.
غمرته الفرحة وراح يستنهض بهمّة، آخذاً دوره لتبليغ النقاط كافة بأننا سننطلق.
وبعد نصف ساعة من السير في البساتين وصلنا بالقرب من تجمعات الإرهاب... نشاهد تحركاتهم وأعدادهم.
عدنا بعد انجاز المهمة الاستطلاعية، وأبلغت القيادة باحتياجات مجموعتي من اجل الهجوم.
(4)
اللقاء الأخير
اجتمعنا على الموعد...
ذاك يدعو.
وآخر يصلي.
صديقي صلى بملابسه العسكرية بعد أن اغتسل بماء النهر.
وبعد أن أتممت صلاتي رحت استلقي تحت ظل شجرة الزيتون.
حضر الغداء..
ـ التفت الفلاح إليّ: سأذهب الى نقطة الرصد، فقال: استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
ذهب واخذ قلبي معه، كنت اشعر بأن أمراً سيحدث، لكن لا اعرف ما هو؟
تبعد نقطة الرصد بمسافة خمسين متراً.
آكل وانظر إليه.
ـ قال احد الأخوة: سيدي هل هناك شيء؟
ـ لا، فهو لم يأكل.
رد الطباخ: سيدي الخير كثير، وحصته موجودة.
خرج صاحبي مسرعا وهو يقول تفرقوا... تفرقوا.... انتحاري قادم.
نهضنا نحمل السلاح مسرعين إليه.
لا جدوى كان يبتعد عنا كلما اقتربنا منه.
احتضن العدو وهرول به.
في لحظة...
أصبح ومضة.
وشّحت الشظايا أجسادنا.
دوي الشهادة تعالت أصواته.
خرجت روحه، ورأيت جسده يتناثر، بل يتذرى في الهواء كقطرات الندى.
إنّه...... جسد شهيد.
اضف تعليق