q

تشهد الساحة العراقية تحولات كبيرة في الأشهر القليلة الماضية على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية، ما أدى حدوث تغيرات على الجانب الاجتماعي المتمثل بالمواطن الذي اندفع للمطالبة بتغيير الواقع المفروض او الواقع المصيري، فيما انبرت الكتل السياسية للوقوف بوجه هذا المد التغيري الطامح لإعادة البلد الى مكانته الحقيقية.

معركة الفلوجة يبدو انها كانت نقطة تحول مهمة في رحلة الصراع العراقية نحو استعادة الذات المسروقة، من قبل الكتل السياسية ذات الولاءات الشرقية والغربية، فالمواطن العراقي بدا أكثر إصرارا على تحقيق النصر من جوانبه المختلفة، واستشعارا من هذا المواطن لأهمية التكنلوجيا الحديثة في كتابة التاريخ نراه استقتل لكتابة كل ما يدور في ارض الميدان من انتصارات، ليكون سندا قويا لجيشه.

الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية هي القوى الفاعلة والاساسية في الحرب على داعش منذ اللحظة الأولى مع تبادل في الأدوار في بعض المناطق بحسب نوعية العملية وحساسيتها الطائفية او مستوى الحاجة الأمنية، وفي معركة الفلوجة الأخيرة اثبتت هذه التشكيلات قدرة استثنائية على خوض معارك وصفت بالمعارك الكبرى، حيث تواجه القوات العراقية عدوا شرسا يستخدم كل جديد في أساليب القتل مع عدم اغفال الأساليب القديمة بأبشع صورها.

لكن هناك من يتخوف من مرحلة ما بعد الانتصار على داعش، استنادا الى وقائع الميداني المتشعب والمشتت بين الانتماءات الفرعية، فهناك من يرى بان القوى الفاعلة في الحرب على داعش يجمعها العداء ضد هذه العصابات الهمجية الطامحة الى العودة لمرحلة ما قبل التاريخ، والقضاء على داعش سيعيد فتح الملفات السابقة.. الاكراد وصراعاتهم مع المركز والسنة المدعومين بسفير السعودية في بغداد وصراعاتهم مع الشيعة والحشد الشعبي على وجه التحديد. وعلى المستوى الدولي هناك الصراع بين إيران والولايات المتحدة الامريكية، او الصراع الشيعي السني الأكبر في الشرق الأوسط.

في ظل أجواء سياسية وعسكرية تسودها الصراعات يفترض على العراق تأسيس قوة رادعة تستطيع مواجهة هكذا اخطار محتملة، وبما ان تأسيس قوة جديدة سيكلف البلد ميزانيات هائلة وبنتائج غير مضمونة فمن الطبيعي اللجوء الى تطوير بعض التشكيلات العسكرية التي اثبتت قدرة كبيرة في الدفاع عن البلد من المخاطر الداخلية والخارجية، وبشهادة العدو قبل الصديق وما تلفيق الأكاذيب من قبل الاعلام الخليجي الا دلالة على النجاح العسكري العراقي في الحرب ضد داعش وهذه التشكلات تتمثل في جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية.

جهاز مكافحة الإرهاب العراقي مثل القوة العراقية الضاربة الأولى في وزارة الدفاع العراقية وبالتالي فهو يستحق كل الدعم وان يكون هناك تركيز عالي على تطويره واسناده باعداد جديدة اكثر تدريبا وسد الثغرات السابقة التي أدت الى خسائر كان من الممكن تلافيها لو توفرت القدرات التدريبية العالية، بالإضافة الى ذلك فجهاز مكافحة الإرهاب بحاجة الى إعادة تاهيل وتقييم في مرحة ما بعد داعش للوقوف على النجاحات وتثبيتها للاستفادة منها في تطوير القطاعات الأخرى، والتأشير الى الأخطاء والاخفاقات لتلافيها في المستقبل.

في الدولة الحديثة هناك تشكيلات عسكرية أساسية يتم الاعتماد في اغلب المهمات ويسميها البعض بالقوات الخاصة، وهكذا قوات هي القوات الأساسية في أي دولة تريد الحفاظ على كيانها. وفي دولة مثل العراق تعيش في ظل أجواء متأزمة تبدو فكرة تطوير جهاز مكافحة الإرهاب في العراق قضية مصيرية للحفاظ على كيان الدولة من مخاطر التفكك الداخلي او محاولات الاعتداء الخارجية.

قد يقول قائل ان البلد بحاجة الى إعادة هيكلة كاملة لأجهزته الأمنية والعسكرية وهي فكرة صائبة. فالأجهزة العسكرية العراقية بحاجة الى إعادة هيكلة كاملة وهي أمور طبيعية في أي دولة تتعرض للحرب اذا ما علمنا ان البلد يعيش في ظل حرب طويلة مع الإرهاب، فالقوة الجوية العراقية متهالكة ولا تتناسب مع متطلبات البلد وفرق المشاة بحاجة الى تأهيل كامل والجوانب السياسية تتداخل بشكل كبير مع الجوانب العسكرية ما ادرى الى حالة الارباك الواضح لكن ومع الإقرار بصعوبة توفير الموارد المالية المطلوبة لإعادة تأهيل المؤسسة العسكرية العراقية؛ فالواجب توجيه الاهتمام الى جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، القوة الضاربة الأولى والتي لا ينقصها الا اغلاق بعض الهفوات التي تحدث في أي حرب طويلة مثل الحرب العراقية ضد الإرهاب.

وعلى النقيض من جهاز مكافحة الإرهاب الذي وكما قلنا بانه مؤهل لأخذ الدور الريادي في حماية العراق؛ فان الأجهزة الاستخبارية العراقية التي تقوم بجهود مشكورة لم تكن في مستوى المعركة الكبرى ضد الإرهاب، والتفجيرات الإرهابية التي تحدث بشكل مستمر بين مدة وأخرى مؤشر خطير على وجود هفوات مخيفة في هذه المؤسسة الحساسة، والإدارات المتعاقبة لم تستطيع إيجاد نموذج للعمل على غرار ما موجود في جهاز مكافحة الإرهاب. والفشل في كشف التفجيرات التي تقوم بها داعش رغم تحذيرات الخبراء الأمنيين مؤشر كبير على قلة فاعلية هذا الجهاز الحيوي.

الدولة العراقية لا يمكنها الاعتماد الى الابد على تشكيلات الحشد الشعبي، فتأسيسها جاء لضرورة مؤقتة وهي طرد جماعة داعش بعد ان استباحت الأرض العراقية وهددت اسوار العاصمة بغداد، وضربت عمق الجنوب العراقي حتى أصبحت حدود محافظات بابل وكربلاء والنجف في مرمى نيران داعش. وما قام به الحشد الشعبي ومساهمته في اسناد القوات العراقية سوف يسلجه التاريخ بأحرف من ذهب الا ان ذلك لا يعني الاعتماد على الحشد الى الابد ونهاية داعش باتت أقرب من أي وقت مضى.

ويتفق اغلب الخبراء الأمنيين على وجود مخاطر محدقة بالعراق في مرحلة ما بعد داعش، تتمثل في صراع الارادات السياسية على المستوى القومي او الديني الطائفي بل هناك مخاوف من صراعات داخل الطوائف نفسها وبالتالي فان الحل الأمثل لمواجهة هذه المخاطر المحدقة فان هناك حلول تكتيكية وحلول استراتيجية والواضح ان طبيعة الأوضاع الراهنة لا تسمح الا بالحلول التكتيكية والتي نعتقد بانها يمكن ان تتكون مثلث الامن العراقي وهو (جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وجهاز المخابرات والأجهزة الاستخبارية الساندة).

الشرطة الاتحادية أصبحت تقف على الحد الفاصل بين مهمات الجيش ومهمات قوات الامن الداخلي، وقد اكتسبت خبرة قتالية نتيجة مشاركتها بشكل رئيسي في محاربة الجماعات الإرهابية، وأصبحت مؤهلة لأداء مهامها كقوة قتالية ضاربة لوزارة الداخلية. اما جهاز مكافحة الإرهاب فالخبرة القتالية والتدريب العالي له يؤهله ليكون القوة الأولى في وزارة الدفاع العراقية. واخذ زمام المبادرة والوقوف بوجه أي تهديدات او مخاطر مستقبلية.

ويبقى جهاز المخابرات العراقية هو العقبة الأبرز في إطار تكوين القوة العسكرية والأمنية العراقية فلم تؤهله الظروف التي فرضتها الصراعات السياسية والإقليمية ليأخذ مكانه ويغلق اهم الثغرات الأمنية في ملف حماية العراق في الداخل على اقل تقدير. وبتقوية هذا الجهاز وتأهيله يبدو ان مثلث الامن العراقي قد اكتمل على اقل تقدير في إطار الحفاظ على المكتسبات التي تحققها القوات العراقية على ارض الميدان، واذا ما اكتملت هذه تشكيلات العراقية الثلاثة يمكن ان تعطي رسالة اطمئنان لمن يتخوف من باقيا العاصفة الداعشية الظلماء.

اضف تعليق