الديمقراطية الإنتخابية تضع الدولة في ساحة المجتمع والثقافات السائدة، وإدامة نقد الحكومة لا ينفع، والأمل في العزيمة والمهارة على العمل الجاد في المجتمع، ولو تغيرت الحكومات مرات ومرات يبقى الحال رهنا بولادة تلك القوة الاجتماعية، وبخلافه تبقى الأنانيات وقصر النظر والتدافع الإستعراضي بين السياسيين واهل القلم دون طائل للشعب العراقي...
هذه وجهة نظر في النسق المعياري، ما ينبغي أن يكون، وليست مهتمة بتفسير الأداء الاقتصادي الفعلي ومحدداته السياسية. وهي متصلة بدراسات ومقالات سابقة، ولتجنب إرهاق القراء نكتفي بالمختصر.
نظام الاقتصاد والشرط السياسي للإصلاح العميق
نظام الاقتصاد العراقي كما آل إليه لم يتشكل بعد التغيير نتاجا لحوار عميق ومسؤول، من جهة تقسيم العمل بين القطاعين العام والخاص ونطاق الدور الأجنبي وضوابطه، ومنهج التنمية الإقتصادية واولوياته القطاعية، وخاصة التصنيع والتوازن بين السلع والخدمات، ومسار تطوير البنى التحتية، وإنتظام النشاط الإقتصادي في المكان، وصلته بالتحضر والسكن، والأسس الفلسفية للعدالة الإجتماعية،... وسواها.
على مستوى الممارسة بقيت الإدارة الإقتصادية بأدوات بسيطة لا تتعدى التمويل من الموازنة العامة والتعاقد لتنفيذ مشاريع وتجهيزات، ولم يخضع القطاع العام لمنهج موحد، ثقافة العمل في دوائر الدولة فقيرة، وتقريبا لا توجد تقاليد تساعد على رسوخ قواعد لصناعة القرار، فنطاق الإرتجال عريض ويسمح بتأثير المزاج الشخصي تشددا او مرونة.
ندوات وتقارير وخطط وبرامج مُدّعاة لأحزاب وقوائم إنتخابية لكنها ليست مقصودة، ومنفصلة عن ثقافة العمل في الدولة وصناعة القرار. والسبب، كما أرى، يتلخص في تأخر إنبثاق قوة إجتماعية تنتظم على توجه سياسي، مهتمة فعلا بالمشترك العراقي إقتصادا ومجتمعا حاضرا ومصيراً، قوة إجتماعية تتمثل فيها الذات الوطنية، وهي شرط لإستكمال بناء الدولة المعاصرة لكل الشعب والتنمية الإقتصادية العميقة والشاملة والتي قوامها التصنيع والشعب المنتج.
تلك القوة المنتظرة لوضع الأمور في نصابها يبدأ تشكلها عندما يسكن الوعي العراقي في الوطن، ويكتشف أن الأرض هي الأساس في تكوين الإجتماع البشري، ولا توجد مبررات أخلاقية للدولة إلاّ لتنظيم ذلك الإجتماع على أفضل القواعد الضامنة للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية. الدولة المعاصرة مؤسسات لا شخصية وقد آن أوان التخلي عن موروثات الزمن القديم " من يحكم من". ولا يجوز إتخاذ العراق أداة طيعة لإستراتيجيات إقليمية ودولية، ولا ساحة نفوذ لدول المنطقة أو غيرها. ورفض أحكام وإملاءات الآخرين وإدانة من يستقوي بالأجانب. والتمسك بحق الشعب العراقي في دولة الإستقلال والسيادة، هذه المبادئ الشريفة لا تتخلى عنها المجتمعات الحية بحجة العقلانية والواقعية السياسية البغيضة. من يريد دولة النزاهة والكفاءة والعدالة الاجتماعية فعليه أن ينتمي بصدق إلى كل الشعب ويتجذر في الأرض، برباط الأخوة الطبيعية مع ابناء الوطن، غير المشروطة بدين وقومية وطائفة وعشيرة، أخوّة الشراكة في العراق وصناعة مستقبله.
وقائع الإقتصاد العراقي وعلاقاته الدولية، إلى الآن، ناتج عرضي لتسويات معقدة ما بين المتنافسين على السلطة ومواقع الإدارة العامة وجهات نفوذ داخلية وخارجية. الثروة السيادية والقطاع العام محور رئيس للتنافس والتسويات. والقطاع الخاص شبكة أفراد ومجموعات روابط شخصية، تجار وصيارفة ومقاولون ومجهزون وعقاريون، القاسم المشترك بينهم إقتناص ما يستطيعون من المال العام. ولا يخفى أن العراق، بدلالة الريع النفطي إلى الناتج المحلي، هو الأعلى في العالم عدا دولة تيمور. ومساحة الناتج السلعي غير النفطي ضيقة للغاية مقارنة مع بقية الدول الريعية ناهيك عن الإقتصاد الإعتيادي لمرحلة العراق في التطور.
من الوضع الراهن إلى البديل
نمو السكان مرتفع وتتضاءل إمكانات الإقتصاد في الإستيعاب الإنتاجي للقوى العاملة. فرصة العراق لتجنب الأزمة التي تنتظره، في المباشرة فورا بعملية التصنيع العميق والمتجه للتصدير وإتخاذه محورا ناظما لتنمية إقتصادية شاملة، ولا ينفع الكلام المرسل مثل تنمية الزراعة والصناعة والسياحة... وهكذا. والأسوأ من ذلك التعويل على الإستثمار الأجنبي، أو المبادرات التلقائية للقطاع الخاص، هذا خيال على فرض حسن النية، وإلا هي سياسة تأجيل. أي ان المطلوب ليس مجرد النمو بل مصادره وتكوين قاعدة إنتاجية رصينة وعريضة للإقتصاد العراقي.
في مقالة سابقة أشرت إلى مفهوم الكفاءة الوظيفية للنظام الإقتصادي ومن أهم مصاديقها التوازن البنيوي بين القوى العاملة في مجموع الأنشطة السلعية والخدمات بالتعريف الواسع، يتغير هذا التناسب مع تطور إنتاجية العمل والتي يعبر عنها متوسط الناتج للفرد بعد إستبعاد الريع. وأيضا مستوى التراكم السنوي بدلالة تكوين رأس المال إلى الناتج المحلي والذي ينبغي أن يتجاوز 30% في الإقتصاد العراقي. وان تكون كفاءة الإستثمار في أعلاها وهذا يتطلب الحرص الشديد على تدقيق التصاميم والمواصفات مقترنة بالتكاليف المعيارية والألتزام بها، مشروحة في مكان آخر، وينسجم هذا الشرط مع إعادة نظر شاملة بإدارة الإستثمار العام. في هذا السياق يُقدّم برنامج للتصنيع: مشاريع معرفة فنيا وتحليل مالي وإقتصادي ومكاني شامل تعده جهات عراقية ذات جدارة وحيادية.
الكفاءة الإقتصادية الوظيفية في العراق تقتضي حتما حضور الدور الإنتاجي للقطاع العام دون مجادلات أيديولوجية، لأن الإقتصاد العراقي ريعي ولابد أن يقابل إستنزاف الثروة الوطنية السيادية بمراكمة رأسمال إنتاجي على الأرض. وكان الأجدر عدم المبالغة في مكاثرة الشركات الأجنبية في القطاع النفطي، كي يزاول العراقيون مهمات الإستكشاف والتطوير والتشغيل، وينبغي التوقف والبدء بتقليص تدريجي لدور الأجانب. ولا بد من الإنتباه إلى التعارض بين شروط حماية العراق من التدخل الخارجي وهذه الدعوة المفتوحة لكل الأجانب في الميناء والبئر والطريق والمترو وكل شيء.
فجوة البنى التحتية واسعة والطلب عليها يتزايد بحكم النمو السكاني إضافة على التجديد آخذين في الإعتبار معدلات الإندثار العالية إرتباطا بتدني النوعية. ومطلوب إيجاد شركات متخصصة في تكوين البنى التحتية لفروعها المختلفة، مثلا شركة للري والمبازل، أخرى لمياه الشرب والصرف الصحي، ثالثة لأبنية التعليم والصحة... الطرق والجسور... وهكذا. تلك الشركات ُتشكّل من منتسبي الدولة بعد تدريبهم من خلال العمل، وذلك لخفض التكاليف وبدونه سوف يعجز العراق عن مواكبة الإحتياجات المتنامية لمختلف الأبنية والإنشاءات لأن التكاليف الحالية باهظة والإيرادات محدودة.
تلك شركات تنفيذ، وإلى جانبها وحدات او شركات متخصصة في إدارة المشاريع بإستقلال عن الجهات المنتفعة منها، الوزارات والمحافظات، أيضا للسيطرة على التكاليف؛ ووحدات رقابة هندسية وكلفوية لتدقيق عمل شركات الإدارة والتنفيذ معا. لأن إستمرار النمط الحالي للإدارة الإقتصادية الذي يقتصر على التعاقد والتمويل دون الإنخراط الفعلي في قوام عمليات الإستثمار والإنتاج والتشغيل فاشل وينتهي إلى ازمة. ومن المستحيل التصدي للفساد المالي دون تغيير جذري في إدارة الإستثمار العام وتكوين البنى التحتية، وايضا تغيير مماثل في إدارة التجهيزات مشروح في محله.
من الضروري الإشارة إلى مفهوم الريع الإقتصادي وهو المكسب الإضافي فوق العوائد الإعتيادية لرأس المال والجهد التنظيمي وما أكثره في العراق، وهو دليل على إنحراف عن شروط الكفاءة الإقتصادية الوظيفية. عندما تؤجر الأرض أو تباع بأدنى من سعرها للمستثمر العقاري فهذا ريع إقتطعه من الثروة السيادية في الحالة الأولى ومن المالية العامة في الحالة الثانية. الكلفة المعيارية للمشروع 10 مليار دينار عندما يحال إلى المقاول بمبلغ 12 مليار، فقد إقتطع من المال العام 2 مليار ريع. شركة تعاقد معها العراق في النفط او الغاز تستحق 3 دولار ثمن خدمتها للبرميل أو ما يعادله لكن التعاقد اعطاها 5 دولار، إذن إقتطعت الشركة 2 دولار للبرميل هذا ريع مستزف من المال العام، وهكذا.
مستثمر عقاري يبيع المساكن للمواطنين بأسعار السوق، وسعر المسكن يشمل البناء وقيمة الأرض. المستثمر يأخذ الأرض من الحكومة بسعر زهيد ويمول من المصارف الحكومية بفائدة رمزية ويبيع المساكن بسعر السوق، هذا المثال خارق لشروط الكفاءة الوظيفية ومناقض لمبادئ العدالة الإجتماعية؛ يقال بخلاف ذلك يتعذر الإستثمار في السكن فليتعذر. الأرض للحكومة تستأجر خدمات مقاول للبناء على أساس الكلفة زائد او بسعر معقول، ثم تبيع المساكن كما فعل المستثمر وتمول بالفرق بين السعر والتكاليف مشاريع عامة اخرى، ما هي الصعوبة في الأمر.
وهنا نبين أن الكفاءة الوظيفية للإقتصاد تقنضي المبادلات مع القطاع العام بالأسعار الإقتصادية اي مبادلات عادلة، الأسعار الإقتصادية من السهل بيانها في كل حالة، ليس مجالها هذه الورقة، من الضروري حماية الثروة السيادية واموال القطاع العام.
القطاع الخاص في النظام الإقتصادي
حدث إلتباس في تعريف نظام الإقتصاد الحر أو الليبرالية الإقتصادية. كما أفهم، النظام الحر يقتضي المجال غير المحدود لأنشطة الأعمال غير الحكومية، ولا تُقيد المبادرات ولا عرقلة للإستثمار الخاص، والأسواق التنافسية تعمل دون إعاقة ولا تتدخل الدولة في الأسعار، وللقطاع الخاص حرية في العلاقات الإقتصادية الدولية. ويتطلب نظام الكفاءة الوظيفية عدم السماح للبيروقراطية إبتزاز القطاع الخاص بأي شكل، وتسهيل إجراءات الحصول على التراخيص.
لكن النظام الحر لا يُقيّد عمل القطاع العام على ان لا يحتكر الأنشطة التي يمكن للقطاع الخاص مزاولتها، او ينافسه بإعانة لنفس المنتج. القطاع العام يزاول كل الأعمال التي يعزف عنها القطاع الخاص أو لا يؤديها بالتكاليف الإقتصادية. مثلا القطاع الخاص لا يستطيع إقامة صناعة متكاملة للمكائن الزراعية أو السيارات هل ينبغي للقطاع العام الإمتناع عنها إنتظارا للقطاع الخاص بعد عقود. كذلك توجد مهمات هي أصلا للقطاع العام مثل الطرق والسكك ومشاريع الري هو الذي ينفق عليها ويستطيع تنفيذها بتكاليف أقل لماذا يحيلها إلى القطاع الخاص. لكن هناك ابنية تجارية وصناعية للقطاع الخاص من غير المناسب منافسة القطاع العام له في بنائها.
إعتمدنا على المستثمر الخاص والأجنبي لتكوين إقتصاد يستوعب القوى العاملة بأجور تكفي لمستوى معيشي ملائم. هذا لم يحصل لعقدين مضت هل نُجرّب عقدين او ثلاثة اخرى وقد لا نستطيع. إستوعبنا الكثير من العراقيين في القطاع العام لكن الفهم المزور لنظام الإقتصاد الحر أدى لتعطيل الفاعلية الإقتصادية للقطاع العام في تكوين البنى التحتية والإستثمار الإنتاجي. ما يزيد على 85% من العراقيين ذوي القدرات العالية في سن العمل يحتجزهم القطاع العام، الحكومة وتوابعها كافة، وننتظر من 15% الباقية في القطاع الخاص تولي مهمة التنمية الإقتصادية في العراق، ماذا نسمي هذا المنهج. أقصد بذوي القدرات العالية ليس المؤهلات التعليمية والخبرات فقط بل الطموحات والتطلعات والخيال المبدع... ومهارات الإتصال الدولي والتنسيق وغيرها، اي مثل قدرات العاملين في شركة تويوتا وجي أم سي ووادي السيلكون،...، لأن التنمية الإقتصادية التي يحتاجها العراق ليست دكاكين ومشاريع صغيرة ومايكروية!!. قطعا ما ينتظره العراق تسريع اللحاق بالدول الصناعية في النطاق العريض ومواكبة التطورات التقنية في جميع المجالات الإنتاجية ومنها في التصنيع الرقمي. وليس مجرد إستيراد نتائج التقدم التكنولوجي للعالم لتستخدم في مجالات إستهلاكية او انشطة إدارية بسيطة.
القاعدة الضرورية: أن تضمن الإدارة الإقتصادية حماية الثروة السيادية من القطاع الخاص والأجنبي، وكذلك حماية المالية العامة. فلا يجوز بحجة الإنفتاح على العالم وتشجيع الإستثمار الأجنبي والخاص السماح للشركات الأجنبية والخاصة التطفل على الثروة السيادية والمال العام.
العدالة الاجتماعية
الثروة السيادية ملك لكل الشعب دون تمييز بالمطلق فيجب تبعا لذلك إعتبار هذه الحقيقة في سياسة العدالة الإجتماعية. أي ان الحد الأدنى للدخل يراعي كون الريع النفطي والموارد الطبيعية الأخرى مصدر رئيس للدخل القومي، وهو لا يعود إلى العمل ولا رأس المال ولذلك لا يجوز التباين في الإنتفاع منه بحجة المؤهلات والجهد وما إليها. كما لا بد من المباشرة لتكوين نظام ضريبي محكم وإدارة ضريبية كفوءة ونزيهة وهذه ليست مستحيلة. من المبادئ الشائعة والمستقرة في العالم المعاصر أخذ الضريبة من الأغنياء وتقديم الإعانة للفقراء وليس لأغنياء آخرين.
البنى التحتية يُنفَق عليها من المال العام وبذا لا يجوز أن يتفاوت العراقيون في الإنتفاع منها، فالتحيز للمدن الكبرى والإنفاق الإستعراضي على حساب المتطلبات الضرورية لحياة الناس يجافي مبادئ العدالة الإجتماعية. ويقال الشيء نفسه على الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. والمسألة الأهم رعاية من ظلمتهم الطبيعة وحوادث الزمن لأنهم شركاء في الأرض زائدا مبدأ الأخوة الطبيعية الذي سلف، ورعاية الضعفاء وإنصافهم هو المقياس الصحيح لسمو الأخلاق والعمق الروحي.
الشرط السياسي لمكافحة الفساد
هنا نؤكد الأهمية الحاسمة للقوة الاجتماعية العراقية ذات التوجه السياسي التي بدأنا منها. وعندما تُحسِن تلك القوة إختيار قياداتها، هي الضمانة الفعلية للتخلص من الترهل والفساد المالي. وجود تلك القوة الإجتماعية يُرغم ذوي التطلعات والمنافسين على المواقع الرئيسة في الإدارة العامة على إنتهاج سبيل النزاهة والكفاءة، لتحقيق طموحاتهم. بينما إلى الآن قد يُحاصَر أهل النزاهة والحرص على الكفاءة والعدالة الإجتماعية بجماعات المصالح ولا احد يسمع بهم ومعاناتهم، لأن العراقيين افراد كل على حدة والمنتفعين من دوام سلبيات الوضع القائم منظّمين واشداء في الدفاع عن مكتسباتهم.
وكلمة أخيرة الديمقراطية الإنتخابية تضع الدولة في ساحة المجتمع والثقافات السائدة، وإدامة نقد الحكومة لا ينفع، والأمل في العزيمة والمهارة على العمل الجاد في المجتمع، ولو تغيرت الحكومات مرات ومرات يبقى الحال رهنا بولادة تلك القوة الاجتماعية، وبخلافه تبقى الأنانيات وقصر النظر والتدافع الإستعراضي بين السياسيين واهل القلم دون طائل للشعب العراقي. والحذر من التسامح مع إيهام الناس بأن مثل ذلك الخلل حتمي ولا بد منه بأي شكل من الأشكال، لأن مثل هذه القناعات نتائجها تدميرية، بل أن التحول ممكن عند تظافر الجهود المنظمة وبشرط التعالي على المغريات الحزبية والشخصية لأجل مكاسب صغيرة عاجلة.
اضف تعليق