يقال إن القضيب الذي كان رسول الله (ص) يحمله، والبردة التي كان يلبسها، كانا لدى الخلفاء العباسيين، يلبسونهما في المناسبات والأعياد، والظاهر أنهم تقمصوا الدور حتى ظنوا أنهم بمنزلة النبي (ص)، ولذا صاروا يحثون الشعراء على تشبيههم به، ووجد الشعراء أن تحقيق مصالحهم الكبرى وما يطمحون إليه، يرتبط بهذا المطلب فمن ينجح في تحقيقه منهم، ينال ما لا يناله غيره، ولأن الشعر (أعذبه أكذبه) فقد تنافس الشعراء في الكذب على الخلفاء، وتقبل الخلفاء كذب الشعراء، هذا يُرضي نرجسيته وشعوره بالعظمة والقدسية، وذاك يُرضي طموحه بالحصول على كثير من دنانير الذهب، وكانت سيرة النبي(ص) وسمعة الإسلام وتاريخ الأمة هم صرعى هذا السجال الغريب!
ولذا يجد من يبحث في دفاتر تاريخنا مئات القصص التي خلدت هذا التماهي بين الخلفاء والشعراء، منها ما جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان أن أحمد بن يحيى البلاذري، قال: كنت من جلساء الخليفة العباسي (المستعين)، فقصده الشعراء، فقال: لا أقبل إلا ممن قال مثل قول البحتري في المتوكل!
لو أن مشتاقا تكلف فوق ما
في وسعه لسعى إليك المنبرُ
قال البلاذري: فرجعت إلى داري، واتيته، وقلت له: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري في المتوكل، فقال: هاته. فأنشدته:
ولو أن برد المصطفى إذ لبسته
يظنُ، لظن البردُ انك صاحبه
وقال وقد أعطيته ولبسته
نعم هذه أعطافه ومناكبه
فقال: أرجع إلى منزلك، وأفعل ما آمرك، فرجعت إلى منزلي، فبعث إلي بسبعة آلاف دينار، وقال: ادخر هذه للحوادث من بعدي.
ويذكر أن البحتري قال الكثير من هذا الهراء في خلفاء بني العباس ولاسيما المتوكل، ومن أبياته المشهورة قوله في المتوكل:
وعليك من سيما النبي
مخايل شهدت برشدك
تبدو عليك إذا اشتملت
ببرده من فوق بردك
وقوله فيه مرة أخرى:
وغدوت في برد النبي وهديه
تخشى لحكم قاصد وتُؤمل
ومما قاله فيه أيضا:
يتولى النبي ما تتولاه
ويرضى من سيرةٍ ما تسير
حزت ميراثه بحق مبين
كل حق سواه إفك وزور
فلك السيف والعمامة والخاتم
والبرد والعصا والسرير
وبذا يثبت لكل عاقل أن هناك بين البشر من يملك جينات طغيانية؛ هي التي تدفعه ليطغى، فهو ما إن يغنى ويشعر بالقوة حتى يتمثل نفسه وقد صار إلها أو نبيا، يحتاج إلى من يرسخ رؤيته هذه ليس في ضميره فحسب وإنما لدى الشعب أيضا مقابل هدايا وعطايا لا يحصل عليها الآخرون.
أما المتملقون والانتهازيون والباحثون عن الغنى والجاه فإنهم أقرب الناس إلى الوقوع في مستنقع الأنفة الزائفة هذا، فهم كانوا ولا زالوا على استعداد تام لبيع عقائدهم وقيمهم وحتى كرامتهم بل وأوطاتهم من أجل إرضاء (الزعيم) أملا بالمغانم والمكاسب، ولذا لا أستغرب كثيرا حينما أجد من يعمل على طغونة بعض الأشخاص والرموز المعاصرين، وتشبيههم بالأنبياء والأئمة، ولكني في غاية العجب من كون هؤلاء الإمعات لا يحصلون على شيء مقابل ذلك سوى حنق وحقد الناس الأسوياء، وكأنهم خسروا الدنيا والآخرة.
اضف تعليق