ما قيمة عالم مسطّح إذا ظلَّ ظهر العم چاسب منحنياً؟ وإن كان كذلك، فمن الذي يسير فوق هذا السطح بأقدامٍ ثابتة، ومن الذي ما زال ينحني ليعيش؟ وهل تكافؤ الفرص بات حقيقة أم مجرد وهم؟ انه خطاب سطح العولمة الذي سيبقى متجاهلاً في قاعها ملايين الأجساد المنحنية يتقدمها جسد العم چاسب...

طوى العم چاسب سنوات حياته التي قاربت الثمانين وطعن في السن لدرجة أصبح ظهره المتحدب لا يقوى على تحمل دفع عربته الخشبية للحصول على رزقه اليومي مكابداً الحياة في أزقة الحي التجاري في مدينتنا بغداد، وهو يقول في سره.. لقد مات الماضي وما زال يطاردني بلارحمة.. فمصائر الرزق تتقرر في هذا الحي بفضل الإرادات المتنافسة او المتصارعة والقوى المجهولة.. ثم تتقدس في أبدية الثراء!!

استدرك العم چاسب، بعد أن جثم الفتور في أعماق قلبه حتى اليأس، ليذعن لقوته المتبقية ثانية وبلا احتراس، مهادناً آماله المستقبلية الملحة وبقوة اليأس نفسه، قائلاً: لن أحزن ولن أطير نحو المجهول ولن أرجع خطوة الى الوراء طالما دواليب عربتي تتحرك نحو الأمام! وان شح النقود لم يؤلمنيِ ولم يخل بميزان حياتي.. لقد تقوّس ظهري وعليّ أن أدفع عربتي في عالم تسطح كله، ولكنه لا يصلح أن يكون ساحة ألعاب مستوية جداً لممارسة لعبة الحياة في العمل والتجارة، حيث يمتلك جميع اللاعبين على سطح العولمة فرصة الكسب المتساوية نفسها في عالم تسطح حقاً وبظهور مستوية، طالما ظل ظهري مقوساً في عالم محدب..!

فالعم چاسب رجلٌ لا يعرف “المنصات”، ولا يقرأ خرائط التحول الرقمي، يعمل بيديه، وظهره منحنٍ منذ سنوات طويلة من الجهد في سوقٍ لا يعرف إلا العمل العضلي. وبينما يتحدث العالم عن الاقتصاد المعرفي والذكاء الاصطناعي، ما زال چاسب يصحو مع الفجر، ويعود منهكًا مع الغروب، دون أن تتغير ملامح يومه أو تتبدل فرصه.

استخدم توماس فريدمان الكاتب الصحفي الشهير في صحيفة نيويورك تايمز عبارته المجازية (العالم مسطح) لتكون عنواناً لكتابه The World is Flat الذي صدر في العام 2005، وهو يقصد بالتسطيح ان العالم بات متناهي الصغر، إذ تبرز أهمية الفرد الذي يستطيع في العالم المسطح تجاوز أنواع المعوقات والعراقيل كافة والتواصل مع أي شخص او أي مكان في هذا العالم الذي أمسى قرية صغيرة. فظهور العولمة الأولى في الفترة ما بين 1492 وحتى العام 1800 جسدها الفتح الاستعماري واستخدام القوة في السيطرة على المستعمرات.

في حين اتسمت المرحلة الثانية من العولمة التي امتدت بين العام 1800 وحتى 2000 بسعي الشركات المتعددة الجنسية في الحصول على الأسواق الخارجية وتقوية مراكزها الاقتصادية من خلال الهيمنة على أسواق العمل الرخيصة لمصلحة المركز الرأسمالي وانتعاشه. وشهد العالم خلالها تعاقب ثلاث ثورات صناعية ابتدأت بالاختراعات الحديثة من القطارات والهواتف وانتهت بثورة الكومبيوتر والبرامجيات.

أما المرحلة الثالثة من العولمة حسب فريدمان والتي ابتدأت من العام 2000 وحتى وقت قريب، فهي التي برزت فيها أهمية الأفراد كما يقول فريدمان، وان العالم غدا منفتحاً على جميع أجناسه وأطيافه الإنسانية. وعلى الرغم من ذلك، فقد تعرضت العولمة ومعتقداتها الى انتقادات واسعة الانتشار. فغالباً ما تتعرض الاجتماعات التي تعقدها المنظمات الدولية المتعددة الأطراف والمعنية بالعولمة الى الاحتجاجات والتظاهرات التي يحتشد فيها آلاف الأشخاص المناهضين لها.

ولا ننسى ذلك الاجتماع الذي عقدته منظمة التجارة العالمية في "كانكون - المكسيك في العام 2003 الذي جسده ذلك المزارع الكوري الجنوبي عندما أحرق نفسه احتجاجاً على رفع الدعم الزراعي عن المحاصيل الزراعية الكورية. اذ جسد لفيف من العلماء والشخصيات المشهورة وهم من أشد المعارضين للعولمة وشعاراتها الليبرالية الجديدة، وهم نعوم جومسكي وجوزيف ستكلتز، اضافة الى الكاتبة الكندية نعومي كلاين، مؤكدين ان العولمة في الجانب الاقتصادي لم تجلب سوى تركز الثروات واللامساوة في الدخل العالمي كما يرى ذلك المناوئون للعولمة.

أما على صعيد حقوق الانسان فانها كرست ظاهرة ما يسمى (بـ"سويت شوبس" Sweatshops) وهي تعبير عن مكانات العمل الاستغلالية التي يقضي فيها العمال ساعات طويلة بظروف إنسانية فقيرة للغاية ولاسيما في دول جنوب شرق آسيا، وهم ينضحون عرقاً من اجسادهم! غالبًا ما توفّر تلك المكانات ظروف عمل قاسية، مع أجور متدنية، وساعات عمل طويلة، وفي أحيان كثيرة دون ضمانات صحية أو قانونية.

أما على المستوى الثقافي فينتقد أولئك المناوئون للعولمة دور الشركات المتعددة الجنسية التي أخذت تفرض علاماتها التجارية التي لا تنسجم وثقافات الشعوب في الاستهلاك او الاستعمال مما سيقضي تدريجياً على الهوية الوطنية والثقافة المجتمعية واستقلالهما عاجلاً أم آجلاً.

فعندما نشر توماس فريدمان كتابه “العالم مسطح” في العام 2005 كما ذكرنا، كانت فكرته الرئيسة تدور حول تغير شكل الاقتصاد العالمي بفضل العولمة والتكنولوجيا. حيث لم تعد الجغرافيا عائقًا، ولم يعد المركز يحتكر المعلومة أو الفرصة، وبات بالإمكان أن يعمل مهندس في الهند لصالح شركة في تكساس وأن يتلقى طالب في المنامة دروسًا من جامعة في لندن. فالتقدم الرقمي والعولمة الثقافية والاقتصادية جعلت من العالم مكانًا “مسطّحًا” — متكافئًا، مفتوحًا، وسريع الوصول .

وهنا قد لا يعرف العم چاسب ماذا تعني “ثورة البيانات”، ولا يعنيه كثيرًا إن كان الاقتصاد العالمي قد دخل “المرحلة الرابعة” من الثورة الصناعية التي تقوم على استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي لدمج الأنظمة الفيزيائية والرقمية والبيولوجية و التي ظهرت بشكل واضح بعد العام 2010 فكل ما يعرفه أن جسده لم يعد كما كان، وأن عمل اليوم لا يختلف عن عمل الأمس، سوى بمزيد من التعب.

وفي حين يتسابق العالم نحو أفقٍ رقمي بلا حدود، ما زال الملايين مثل العم چاسب يكدّون في الواقع، تحت الشمس، في مهن لم تصلها موجات “التسطيح” المزعوم. فحين نحتفي بعالم مفتوح ومتصل نغض الطرف عن أولئك الذين ما زالوا مقيدين بالجغرافيا، والفقر، والعمل اليدوي الذي لا يُرَى؟

ربما لم يخطئ فريدمان تمامًا حين قال إن العالم أصبح مسطحًا. لكنه، من حيث لا يدري، قدّم وصفًا دقيقًا لحقيقة أعمق: أن تسطيح العالم تمّ من الأعلى، لا من الأسفل، وأن من يقف على القمة يرى الأرض مسطّحة، أما من ينحني على ترابها، مثل العم چاسب وعموم كادحي الشرق وعالم الجنوب، فيدرك أنها ما زالت مليئةً بالمرتفعات والمنخفضات، فبين هذا وذاك، يبقى السؤال مفتوحًا: ما قيمة عالم مسطّح إذا ظلَّ ظهر العم چاسب منحنياً؟

وإن كان كذلك، فمن الذي يسير فوق هذا السطح بأقدامٍ ثابتة، ومن الذي ما زال ينحني ليعيش؟ وهل تكافؤ الفرص بات حقيقة أم مجرد وهم؟ ختاماً، انه خطاب سطح العولمة الذي سيبقى متجاهلاً في قاعها ملايين الأجساد المنحنية ..يتقدمها جسد العم چاسب …!!!

اضف تعليق