مجتمع المعرفة هو المجتمع الذي يعظم من قيمة المعرفة، ويرفع من شأنها، ويقدمها على ما سواها، ويجعلها أولوية دائماً تتقدم وتتفوق على كثير من الأولويات الأخرى. وهذا يعني أن المعرفة هي التي تشكل نظرة المجتمع إلى نفسه، ومنظور الرؤية إلى ما حوله، ويحكمها المجتمع كمعيار في تحديد مواقفه...
يجري الاهتمام في العالم العربي بتداول مفهوم مجتمع المعرفة أو المجتمع المعرفي، الذي ظهر في أدبيات وفعاليات تتصل بالمنطقة العربية. فتقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003م، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، كان بعنوان نحو إقامة مجتمع المعرفة. وبرنامج المحاضرات والندوات التي عقدت على هامش معرض الكتاب في القاهرة لهذا العام كانت تتمحور حول مجتمع المعرفة. والمشروع الذي ستطرحه الولايات المتحدة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثمان حول الشرق الأوسط في اجتماع القمة الذي سيعقد في يونيو هذا العام، هذا المشروع يتضمن ثلاثة محاور أساسية، المحور الثاني يدور حول بناء مجتمع معرفي. إلى غير ذلك من نشاطات واهتمامات سوف تدفع بمفهوم مجتمع المعرفة نحو التداول الواسع وفي نطاقات ومجالات واسعة ومتعددة. الأمر الذي يدعونا للتوقف أمام هذا المفهوم الحيوي والفعال لتكوين المعرفة به أولاً، وللاستفادة من مكوناته وفعالياته ثانياً.
ولا شك في أهمية وقيمة تداول هذا المفهوم، وتركيز النظر عليه، وتعميمه في مختلف الوسائل والوسائط الإعلامية والاتصالية والثقافية والتربوية. وإننا بأمس الحاجة لهذا النمط من المفاهيم التي نفتقدها من حيث الاهتمام بها، والالتفات إليها، ولأنها تكاد تغيب عنا وتنسحب من حياتنا، ولا يكون لها وعي وإدراك بقيمتها ومكوناتها المعرفية والتربوية.
كما أن هذا المفهوم من أكثر المفاهيم التي تصطدم بواقعنا وأحوالنا العامة والشاملة، ويتعارض بشدّة مع ممارساتنا وسلوكياتنا خصوصاً تلك التي تتصل بأنماط علاقاتنا بالعلم والمعرفة والثقافة والتربية، وما تكشفه الأرقام والإحصائيات في هذا الشأن، تؤكد خطورة التراجع والانحدار الذي نحن عليه منذ زمن طويل، ومدى اتساع الفجوة التي تفصلنا عن مستويات التقدم في العالم، بحيث لا يكون من المبرر الحديث عن مجتمع المعرفة الذي تفصلنا عنه مسافات لا نستطيع أن نقدر مداها بالمقاييس الحضارية. ويكفي معرفة أن نسبة الأمية في العالم العربي تقدر بـ65 مليون تشكل النساء ثلثي هذا العدد، وما تنتجه البلدان العربية من الكتب لا يمثل سوى 1.1 في المئة من الإجمالي العالمي إلى غير ذلك من أرقام وحقائق مفزعة.
والذي يدعونا للحديث عن هذا المفهوم هو ضرورة أن نتعامل معه بالتفكير النقدي، وبمنهج الاستشراف المستقبلي، وبمنطق التواصل مع العصر والانخراط في العالم. التفكير النقدي بمعنى أن نواجه أحوالنا وأوضاعنا بهذا المفهوم الذي نحاول من خلاله الكشف عن مستويات تخلفنا وتراجعنا ودرجات الانحدار التي يصعب علينا تصورها، ووضع حد لها، أو حتى التحكم بها.
وبمنهج الاستشراف بمعنى أن يكون هذا المفهوم باعثاً لخلق تطلعات جديدة وسامية، ولاكتشاف آفاق النهوض والتجديد، وتحريك عوامل التغيير والإصلاح من أجل تجاوز هذه الأوضاع والتخلص منها. ومجتمع المعرفة هو صورة المجتمع الذي نحاول الوصول إليه، أو القياس عليه، أو هو صورة المستقبل لنا، حتى لو كان هذا المستقبل بعيداً عنا وبعيداً جداً. والاستشراف ليس له فاعلية بدون تخطيط واستعداد ووجود إرادة حقيقية.
وبمنطق التواصل مع العصر لأننا بدون التقدم في ميادين العلم والمعرفة فلن نمتلك القدرة على التواصل أو إقناع العالم بالتواصل معنا، لأن المعرفة هي جوهر التقدم، وروح التواصل.
لذلك من الأهمية أن نساهم في إحياء هذا المفهوم في نفوسنا وعقولنا لنجدد به أحوالنا وأوضاعنا.
لقد جاء مفهوم مجتمع المعرفة بعد ما شهد العالم أعظم ثورة في مجال المعارف والمعلومات، الثورة التي غيرت من رؤية الأمم إلى العالم، حيث أصبحت المعرفة من القوى المؤثرة في تشكيل أنماط حياة المجتمعات الإنسانية، وصياغة أنظمتها السلوكية، وهندسة أشكال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية فيها، وفي تجديد نظرة هذه المجتمعات إلى المستقبل.
وقد كشف هذا المفهوم عن التطور في مستويات النظر إلى المعرفة، وكيف أن هذه المعرفة تحولت إلى مصدر قوة تتقدم وتتفوق على مصادر القوة الأخرى، القديمة والتقليدية، حيث باتت تتفوق على قوة الأرض التي هي من مصادر القوة القديمة، وتتفوق أيضاً على قوة المال وهي من مصادر القوة التقليدية. وأصبح الحديث عن المعرفة يقترن بالقوة، ويقال المعرفة قوة.
ومجتمع المعرفة هو المجتمع الذي يعظم من قيمة المعرفة، ويرفع من شأنها، ويقدمها على ما سواها، ويجعلها أولوية دائماً تتقدم وتتفوق على كثير من الأولويات الأخرى. وهذا يعني أن المعرفة هي التي تشكل نظرة المجتمع إلى نفسه، ومنظور الرؤية إلى ما حوله، ويحكمها المجتمع كمعيار في تحديد مواقفه وممارساته، أو هكذا يفترض.
كما أن مجتمع المعرفة هو المجتمع الذي تتدفق فيه المعارف والمعلومات بسهولة ويسر وبدون عوائق وصعوبات، بحيث يمكن الوصول إليها بطرق سريعة، وبوسائل متعددة خلال وقت قصير، وبدون متاعب وتكاليف مجهدة وباهظة. وتكون متاحة للجميع بدون طبقية أو تمييز. وهذا يعني إشاعة المعرفة وتعميمها في كل مرافق الحياة، بحيث تكون المعرفة هي السمة الجوهرية والمميزة لطبيعة وشخصية المجتمع.
ومجتمع المعرفة كذلك هو المجتمع الذي يساهم بفاعلية في إنتاج المعرفة وتطويرها، وليس مجرد إتقان الاستفادة منها، وحسن استعمالها وتوظيفها. وقد أصبح التقدم في العالم اليوم يقاس بمعايير القدرة على إنتاج المعرفة وتحديثها وتراكمها. وتحول هذا المجال ـ أي مجال المعرفة ـ إلى محور التنافس بين الدول والمجتمعات المتقدمة التي تتسابق في بينها على اكتساب مصادر القوة والهيبة والتفوق الحضاري. خصوصا بعد أن تحول الاقتصاد الحديث إلى ما يعرف بالاقتصاد المعرفي، وهو الاقتصاد الذي تشكل المعرفة فيه العصب الأساسي، وتساهم في تحديد هويته وصورته وحتى فلسفته.
وهذا النمط من المجتمعات يفترض أن يلعب فيه العلماء وأهل الخبرة والمعرفة دوراً مهماً وحيوياً، بحيث يكون الوصف الذي يعرفون به، هو الوصف الذي يطلق على المجتمع برمته، وكأنه تحول إلى مجتمع العلماء وأهل المعرفة، حتى سمي بمجتمع المعرفة، ولا مكان في هذا المجتمع إلى الأمية والجهل والتخلف.
والسؤال الذي يتوجه إلينا هو: ماذا يعني لنا مجتمع المعرفة؟
هذا المفهوم في جوهره المجرد وثيق الصلة بالمنظومة الإسلامية في رؤيتها إلى العلم والمعرفة، وإلى منزلة ومكانة العلماء وأهل العلم. فالإسلام الذي بدأت رسالته بآية (اقرأ) والتي تعني نفي الجهل بكافة صوره وأشكاله، كان يفترض أن يتحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع المعرفة، ويكون معياره قوله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ـ سورة الزمر آية 9ـ وقوله تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ـ سورة المجادلة آية 58 ـ لكن أين نحن من صورة هذا المجتمع، ونحن لا نعرف كيف نعالج مشكلة الأمية المتفشية بشكل خطير في مجتمعاتنا، وهذا يعني أن الفجوة آخذة في الاتساع بيننا وبين العالم المتقدم.
اضف تعليق