وهذا الذي كان يفترض أن ندركه نحن، وننطلق منه، ونتعامل على أساسه مع الحداثة، باعتبارنا ننتمي إلى ثقافة ثرية، وإلى حضارة عريقة، وإلى دين عظيم. فالأمة التي لها مثل هذه الثقافة والحضارة، ومثل هذا الدين والتاريخ لا يجوز في حقها أن تكون تابعة ومقلدة ومتماهية لحداثة الغرب...
لو فتشنا عما يمكن أن نسميه بالحداثات المغايرة في العالم المعاصر، لوجدنا أن هذا النمط من الحداثات موجود بصورة أساسية ومميزة في مجتمعات مثل اليابان والصين والهند. وهي المجتمعات التي ينظر إليها الغربيون على أنها مجتمعات مختلفة ومغايرة لهويتهم وتقاليدهم وتراثهم وثقافتهم، ويعترفون لها في نفس الوقت بالنمو والنهوض والتقدم، بالشكل الذي يثير حفيظتهم وقلقهم، حين يرون في تلك المجتمعات أنها يمكن لها أن تنافسهم وتنازعهم في المستقبل، وعلى امتلاك مفاتيح المستقبل.
والسؤال ما الذي جعل هذه المجتمعات تكوّن لها حداثات مغايرة عن الغرب؟ ولو لم تكن لها مثل هذه الحداثات المغايرة لما كان الغرب ينظر إليها بطريقة مختلفة لا تخلو من حذر وتوجس! والإجابة على هذا السؤال ترتد إلى الماضي القديم، فهذه المجتمعات تنتمي إلى ثقافات ضاربة في التاريخ، وإلى حضارات موغلة في القدم، وإلى ديانات مازالت مؤثرة إلى هذا اليوم، ومرت عليها إمبراطوريات قوية. ومن طبيعة هذه المجتمعات أنها لا تتخلى عن هويتها وتراثها وتاريخها، ومن الصعب الإطاحة بثقافاتها، أو الاقتلاع عنها، أو التغلب عليها.
فالغرب الذي وصل إلى هذه المجتمعات واستعمرها وفرض هيمنته عليها، وحاول التأثير على هيكلياتها الاقتصادية، وأنماطها الاجتماعية، والعبث بكل مكوناتها ومؤسساتها، والبنى التحتية فيها، لتغيير صورتها واستتباعها وربطها بالغرب في كافة مجالاتها.
ومع أن هذه المجتمعات تقبلت الانفتاح على الغرب، وتحديداً اليابان حيث أطلق الإمبراطور ميجي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مقولة (لنترك آسيا وننضم للغرب)، وبهذا الانفتاح أخذت هذه المجتمعات الكثير من الغرب ومنها الحداثة، مع ذلك لكنها لم تتخل عن تقاليدها وتراثها وقيمها، وكيفت الحداثة لمنظوراتها، واستطاعت أن تبرهن على إمكانية اكتساب الحداثة دون التخلي عن التراث، أو الانقلاب على التقاليد، أو الارتداد على القيم.
فالهويات لها قوة الممانعة، والتقاليد لها قوة الرسوخ، والقيم لها قوة النفوذ. وقد أحرجت هذه المجتمعات الغرب الذي لم يعد يحتكر الحداثة، وانحل وهم المطابقة والتماثل بين الغرب والحداثة، كما لم يعد الغرب الطريق الوحيد للحداثة.
فالآسيويون يعتقدون كما يقول صمويل هنتنغتون في كتابه (صدام الحضارات) أن هذا النجاح الذي وصلوا إليه هو إلى حد كبير نتاج للثقافة الآسيوية، ولم يعودوا يترددوا في تأكيد تميز ثقافتهم، والإطراء على تفوق قيمهم ونمط حياتهم مقارنة بالغرب والمجتمعات الأخرى. وقد وصل الآسيويون إلى درجة من الثقة بالنفس بحيث لم يعودوا ينظروا كما ينقل هنتنغتون عن السفير تومي كوه إلى كل شيء غربي أو أمريكي على أنه بالضرورة أفضل شيء.
وقد وصل الحال بالآسيويين إلى أن يناقشوا حسب تصوير هنتنغتون بأن التطور الآسيوي والقيم الآسيوية هي نماذج ينبغي على المجتمعات غير الآسيوية الأخرى أن تقتدي بها في جهودها الرامية إلى اللحاق بالغرب، وينبغي أن يتبناها الغرب حتى يجدد نفسه.
وهذا الذي كان يفترض أن ندركه نحن، وننطلق منه، ونتعامل على أساسه مع الحداثة، باعتبارنا ننتمي إلى ثقافة ثرية، وإلى حضارة عريقة، وإلى دين عظيم. فالأمة التي لها مثل هذه الثقافة والحضارة، ومثل هذا الدين والتاريخ لا يجوز في حقها أن تكون تابعة ومقلدة ومتماهية لحداثة الغرب، لان بإمكانها أن تصل إلى ما وصلت إليه مجتمعات الحداثات المغايرة، في تكوين حداثة مغايرة لها أيضا.
وإنجاز هذه الخطوة والتقدم نحوها يحتاج من المثقفين العرب والمسلمين أن يغيروا من نظرتهم إلى أنفسهم من جهة، وإلى تراثهم وثقافتهم من جهة أخرى، وإلى الغرب وحضارته من جهة ثالثة. وأذكر هنا بما قاله المستشرق الفرنسي أرنست رينان في مقدمة كتابه ”ذكريات الطفولة والشباب” (أن جميع العصور التي تجثم على كاهل أمة ما هي صحائف من كتاب واحد. وأن رجال التقدم الحقيقيين هم أولئك الذين يتخذون من احترامهم العميق للماضي منطلقا لهم).
اضف تعليق