ان المعلم العراقي يمتلك طاقات إبداعية كبيرة، لكنها تظل حبيسة الإطار التقليدي للنظام التعليمي والظروف الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، فإن النتائج التي توصلت إليها الدراسة تقدم بارقة أمل، وتؤكد أن الاستثمار في الصحة النفسية للمعلمين وتعزيز قدراتهم الإبداعية ليس رفاهية، بل ضرورة ملحة لبناء تعليم أفضل...

في عالمٍ تربويٍّ تشوبه التحديات وتزاحمه المتغيرات، تبرز الحاجة الماسة إلى دراسات علمية جادة تلامس واقع الميدان التربوي، وتستنبط الحلول من صميم المشكلات. في هذا الإطار، نلتقي اليوم مع باحثة متميزة استطاعت أن تقدم رؤيةً عميقةً لواقع المدرسين في محافظة بابل، الباحثة رولا سعد حبيب، الحاصلة على درجة الماجستير من كلية التربية للعلوم الإنسانية/ قسم العلوم التربوية والنفسية في جامعة بابل، عن رسالتها الموسومة "التخيل الإنتاجي وعلاقته بالثروة النفسية لدى مدرسي المرحلة الثانوية" التي نُوقشت تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمود محمد حسن الشمري.

تأتي أهمية هذا الحوار من كونه يناقش دراسةً علميةً استطاعت أن تلامس أحد أبرز المواضيع التربوية الحساسة في واقعنا التعليمي، حيث تجمع بين سيكولوجية المدرس ومتطلبات المهنة في بيئة تعليمية تشهد تحولات متسارعة. فالدراسة لم تكتفِ بالجانب النظري، بل غاصت في أعماق الميدان التربوي لتستقي بياناتها من عينةٍ بلغت 400 مدرسٍ ومدرسة من مختلف مدارس محافظة بابل، مما يجعل نتائجها ذات مصداقية عالية وقابلة للتطبيق.

التخيل الإنتاجي ذلك المفهوم الذي قد يبدو للوهلة الأولى غريباً في سياقنا التربوي، إلا أن الباحثة استطاعت عبر منهجية علمية دقيقة أن تبرهن على وجوده الفعلي لدى المدرسين، رغم كل القيود التي يفرضها النظام التعليمي التقليدي القائم على الحفظ والتلقين. كما تطرقت الدراسة إلى مفهوم الثروة النفسية الذي يشكل حجر الزاوية في الصحة النفسية للمعلم، والذي ينعكس بدوره على أدائه المهني وجودة مخرجاته التعليمية.

ما يزيد هذه الدراسة تميزاً هو توقيت إجرائها، حيث جاءت في ظل ظروفٍ استثنائية يعيشها القطاع التربوي في العراق، مما يجعلها وثيقةً مهمةً لتقييم واقع التعليم ووضع الحلول المناسبة. كما أن اختيار الباحثة لنظرية Werhane (2002) في تفسير التخيل الإنتاجي، ونظرية Diener في قياس الثروة النفسية، يدل على سعة اطلاعها وحرصها على اختيار الإطار النظري الأنسب لموضوع دراستها.

في هذا الحوار الشامل، سنتناول مع الباحثة مختلف جوانب الدراسة بدءاً من الإطار النظري الذي اعتمدته، مروراً بالتحديات الميدانية التي واجهتها أثناء جمع البيانات، ووصولاً إلى التوصيات العملية التي يمكن أن تسهم في تطوير العملية التربوية. كما سنستقصي آراءها حول إمكانية تعميم نتائج الدراسة على محافظات أخرى، ودور التراث الحضاري لبابل في تعزيز الصحة النفسية للمعلمين.

إن هذا الحوار ليس مجرد نقاش أكاديمي جاف، بل هو محاولة لفهم أعمق لواقع المعلم العراقي، ذلك الركن الأساسي في العملية التربوية الذي غالباً ما يُغفل عن دوره المحوري في بناء الأجيال. من خلال إجابات الباحثة الواعية والمتزنة، سنكتشف أن المعلمين يمتلكون طاقات إبداعية كبيرة، لكنها تظل مقيدة بقيود النظام التعليمي والظروف الاجتماعية والاقتصادية.

نقدم هذا الحوار كمساهمة في إثراء النقاش التربوي، وكمحاولة جادة لوضع الإصبع على الجرح، سائلين المولى عز وجل أن يكون هذا العمل خطوة في طريق إصلاح التعليم، وأن يكون حافزاً لباحثين آخرين لمواصلة دراسة الجوانب المختلفة لهذا الموضوع الحيوي.

بدايةً، كيف عرَّفتِ "التخيل الإنتاجي" عملياً في بحثكِ؟ وهل واجهتِ صعوبة في تمييزه عن مفاهيم كـ"الإبداع" أو "حل المشكلات" في سياق المدرسين؟  

 التخيل الإنتاجي وفق النظرية المتبناة (Werhane, 2002) هو قدرة الفرد على تطوير صور فكرية وتجديد المصطلحات العقلية لمراعاة الاحتمالات الجديدة في المواقف وفهم مواقف الآخرين وثقافاتهم. لم تكن هناك صعوبة في التمييز بينه وبين الإبداع أو حل المشكلات، لأن المفهوم متعدد الجوانب ويتضمنهما.

 لماذا اخترتِ نظرية (Werhane) لقياس التخيل الإنتاجي؟ وهل وجدتِ اختلافاً بين المفهوم النظري وتطبيقه على مدرسي بابل؟  

اخترت نظرية Werhane لأنها الوحيدة التي فسرت التخيل الإنتاجي بشكل واضح. وجدت أن المدرسين يمتلكون هذه القدرة، لكن تفعيلها في الممارسات التعليمية محدود بسبب عوامل سياقية وثقافية وتنظيمية.

كيف صممتِ مقياس "الثروة النفسية" ليتناسب مع واقع المدرسين في العراق؟ هل اضطررتِ لتعديل تعريف (Diener) ليعكس احتياجاتهم الخاصة؟  

 صممت المقياس وفق نظرية Diener دون تعديل، واعتمدت على أبعاد: الرضا عن الحياة، الاتجاهات والانفعالات الإيجابية، المساندة الاجتماعية، والصحة النفسية والبدنية.

 كيف أقنعتِ 400 مدرسٍ بالمشاركة رغم ضغوط عملهم؟ وهل واجهتكِ مواقف طريفة أو صادمة أثناء جمع البيانات؟  

كان التعاون جيدًا بفضل الكتاب الرسمي من التربية. بعض المدرسين كانوا إيجابيين رغم ضغوطهم، حتى إن بعضهم أخذ الاستبانة للمنزل للإجابة بدقة.

هل لاحظتِ فرقاً بين مدرسي القرى والمدن في بابل؟ مثلاً: هل تأثر التخيل الإنتاجي بنقص الموارد في المدارس الريفية؟  

نعم، هناك فروق بسبب نقص الموارد في القرى، لكن المدرسين هناك يمتلكون تخيلًا إنتاجيًا وثراءً نفسيًا رغم عدم توفر مقومات التفعيل.

ما أكثر عقبة واجهتكِ في الميدان؟  

لم أواجه صعوبات كبيرة بسبب الكتاب الرسمي، لكن بعض المدرسين فضلوا الإجابة لاحقًا حتى لا يعطلوا الدروس.

 كيف تفسرين ارتفاع التخيل الإنتاجي رغم أن النظام التعليمي في العراق يعتمد على الحفظ؟ هل هو هروب من الواقع أم تكيّف؟  

 ليس هروبًا، بل واقع. المدرسون لديهم تخيل إنتاجي، لكنهم مقيدون بالمنهج التقليدي وغياب التدريب على التفكير الإبداعي.

 وجدتِ فروقاً بين الجنسين... هل العبء الاجتماعي على المدرسات (كربات منازل) قلَّل من ثروتهن النفسية مقارنة بالزملاء الذكور؟  

النتائج أظهرت تشابهًا بين الجنسين في التخيل الإنتاجي والثراء النفسي، لأنهم يعملون في بيئات متشابهة ويسعون لأهداف تربوية موحدة.

هل لاحظتِ أن المدرسين الذين يعملون بوظائف إضافية (مثل الدروس الخصوصية) كانت نتائجهم مختلفة؟  

  لم أتطرق لهذا الجانب، لأنه ليس ضمن متغيرات الدراسة.

بعض المدرسين قد يقولون: "التخيل الإنتاجي رفاهية في ظل انقطاع الرواتب!" كيف تردين؟  

  التخيل الإنتاجي لا يمكن فصله عن الأمان الاقتصادي. الدعوة للإبداع تفقد معناها دون توفير الحد الأدنى من الاستقرار المالي للمعلمين.

 لو طلبتِ من وزارة التربية تطبيق نتائجكِ، ما أول إجراء تقترحينه؟ 

أوصي بوضع برامج لتعزيز التخيل الإنتاجي والثراء النفسي لدى المدرسين والطلاب، عبر إدخال أنشطة إبداعية في المنهج.

 هل تعتقدين أن نتائجكِ تنطبق على محافظات أخرى؟ مثلاً: هل سيكون الوضع مختلفاً في كردستان حيث الظروف أكثر استقراراً؟  

النتائج قد تختلف بسبب اختلاف البيئات. يحتاج الأمر لدراسات مقارنة بين المحافظات أو الأقاليم.

كيف ساعدكِ انتماؤكِ للمدينة في فهم عينة البحث؟ وهل تعرضتِ لمواقف طُعنتِ فيها بكونكِ "باحثة شابة"؟  

  لم أواجه أي انتقادات، بل تعامل الجميع باحترام وتشجيع، خاصة أن المدرسين يقدرون البحث العلمي.

ما أكثر قصة لمدرس/مدرسة ظلت عالقة في ذهنكِ؟ وكيف أثرت في رؤيتكِ لمستقبل التعليم؟  

لقائي ببعض أساتذتي القديمين كان مؤثرًا، حيث رأوا فيّ باحثة مستقبلية، مما عزز إيماني بدور المعلم في تشكيل الأجيال.

إذا أعدتِ البحث بعد 5 سنوات، ما المتغير الجديد الذي ستضيفينه؟ (مثل: تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على التخيل) 

  قد أضيف متغيرات مثل تأثير التكنولوجيا، لكني أرى أن وسائل التواصل قد تكون سلاحًا ذا حدين إذا لم تُستخدم بشكل صحيح.

 لو طلبتِ من المدرسين تخيل "مدرسة مثالية" في بابل، ماذا تتوقعين أن تكون إجاباتهم؟  

  الإجابات ستختلف حسب تجاربهم، لكني أتوقع تركيزهم على تحسين البنية التحتية والمناهج والدعم النفسي.

كيف يمكن توظيف التراث الثقافي لبابل (كالحضارة البابلية) لتعزيز الثروة النفسية للمدرسين؟  

الانتماء لحضارة عظيمة مثل بابل يعزز الفخر والكرامة المهنية، ويرفع الإحساس بالمعنى والقيمة، وهي عناصر أساسية في الثروة النفسية.

 ما الذي تودين قوله للمدرسين الذين شاركوا في البحث؟ وكيف ستخبرينهم أنهم جزء من حل أزمة التعليم؟  

 هم القدوة والأساس في بناء الأجيال، ودورهم محوري في تمجيد الطاقات الشبابية وتطوير التعليم رغم التحديات.

في ختام هذا الحوار الثري مع الباحثة رولا سعد حبيب، نجد أنفسنا أمام رؤيةٍ تربويةٍ عميقةٍ تلامس واقع المدرسين في محافظة بابل بصدقٍ وموضوعية. لقد كشفت لنا الدراسة أن التخيل الإنتاجي والثروة النفسية ليسا مجرد مصطلحات أكاديمية، بل هما أداتان فعالتان يمكن أن تساهما في إحداث تغيير إيجابي في البيئة التعليمية، رغم كل التحديات التي تواجهها. 

من خلال إجابات الباحثة الواعية، اتضح أن المعلم العراقي يمتلك طاقات إبداعية كبيرة، لكنها تظل حبيسة الإطار التقليدي للنظام التعليمي والظروف الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، فإن النتائج التي توصلت إليها الدراسة تقدم بارقة أمل، وتؤكد أن الاستثمار في الصحة النفسية للمعلمين وتعزيز قدراتهم الإبداعية ليس رفاهية، بل ضرورة ملحة لبناء تعليم أفضل. 

ختاماً، نخرج من هذا الحوار بثلاث رسائل رئيسية: 

1. المعلمون ليسوا مجرد ناقلين للمعرفة، بل هم قادة تغيير يحتاجون إلى الدعم النفسي والمهني لتفعيل طاقاتهم الكامنة. 

2. النظام التعليمي بحاجة إلى مراجعة جذرية، تتحول فيه المناهج من الحفظ والتلقين إلى الإبداع والتفكير النقدي. 

3. الدراسات الميدانية مثل هذه تُعد إضاءةً مهمةً على طريق الإصلاح التربوي، وتستحق أن تُعمم نتائجها وتُطبق توصياتها.

نشكر الباحثة رولا سعد حبيب على هذا الجهد العلمي المتميز، ونأمل أن تكون هذه الدراسة لبنةً في صرح إصلاح التعليم، وأن تحفز باحثين آخرين على استكمال المسيرة. كما نوجه تحية تقدير لكل مدرس ومدرسة في العراق، الذين يصنعون المستقبل رغم كل الصعوبات. 

فالاستثمار في المعلم هو استثمار في الأمة كلها.  

اضف تعليق