التحول المثير في مكانة المثقف العربي الحديث ووظيفته، ما زال يتقمص دور الداعية، ويسند لنفسه أدواراً تتخطى قدرته الفعلية على الأداء والإنجاز، وما زال أسير صورته عن نفسه التي رسمتها له ظروف لم تعد موجودة، إنه الوهم في نظره يملك عليه الوعي، ويدفعه إلى تقمص هو شكل من أشكال...
من الممكن القول أن أشد نقد تعرض له المثقف في المجال العربي، هو النقد الذي سطره المفكر اللبناني علي حرب في كتابه (أوهام النخبة أو نقد المثقف) الصادر سنة 1996م، وأثار به حفيظة شريحة من المثقفين، وانفعل البعض منه غضباً، وفتح جدلاً وسجالاً حاداً وقاسياً في وقته، يعادل حدية وقسوة النقد الذي فتحه الكتاب.
فهناك من وجد في هذا النقد إعلاناً لهزيمة المثقف، وهناك من وجد فيه إعلاناً لموت المثقف أو لنهاية المثقف، وهناك من وجد فيه نقداً جذرياً غير مسبوق للمثقف، إلى جانب من وجد فيه أنه الأكثر إثارة للنقاش حول وضعية المثقف، أو أنه محاولة للبحث عن دور فعال للمثقف، أو أنه محاولة لخلق واقع فكري جديد.
ومن جهته لا ينفي علي حرب شدة النقد وقسوته الذي فتحه على المثقف، وأعلن ذلك بنفسه صراحة وبوضوح كبير، في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب الصادرة سنة 1998م، بقوله أعترف بأنني فتحت النار على المثقف بقدر ما أقدمت على فتح ملف المثقفين أمام النقد والمساءلة، وذلك في محاولة منه لتغيير وجهة النقد، من وجهته التي تركز على ما هو خارج المثقف، إلى وجهته التي تركز على ما هو داخل المثقف، أي على المثقف نفسه فكراً وممارسة، خطاباً ومؤسسة.
وبمعنى من المعاني أن حرب أراد هذه المرة من المثقف أن يكون متهماً ويضعه في قفص الاتهام، وليس قاضياً أو مرافعاً كما يضع نفسه دائماً، ولا يرى نفسه في غير هذا الموقف، الذي تغير هذه المرة.
وأراد منه أن يكون محاسباً ومساءلاً وتعدد أمامه وفي محضره قائمة الأخطاء والعثرات، لا أن يكون كعادته وكما يحلو له محاسب ومساءل لغيره، على تعدد هذا الغير وتنوعه فرداً ومجتمعاً، سلطة ودولة، أمة وحضارة.
وأراد منه أن يكون ناظراً إلى ذاته، وإلى عدته الفكرية وخطابه ودوره وعلائقه، لا أن يكون ناظراً لغيره، متستراً على ذاته وكاشفاً عيب غيره، منزهاً لذاته منتقصاً لغيره، يرى الحاجة دائماً إلى إصلاح غيره، ولا يرى الحاجة إلى إصلاح ذاته، يسمع صوته للغير ولا يسمع لذاته، ويتخيل نفسه في صورة متعالية دائماً، وكأنه القابض على الحقيقة، والمبشر بالعدالة، والممثل للحداثة، ولا يمر التنوير إلا على يديه.
في حين يرى حرب أن المثقف بات مسؤولاً بالدرجة الأولى عن طرح الأسئلة على نفسه، بعد كل ما حصل من تعثر أو فشل وإخفاق للشعارات والمشروعات، وبعد ما مورس من الاستبداد والتفاوت، والحجب باسم الحرية والعدالة والحقيقة.
ولا يعقل في نظر حرب أن يستمر المثقف في تقديم نفسه بوصفه يمثل النخبة الواعية والمستنيرة أو المتقدمة، ممارساً وصايته على القيم والحقوق والحريات، في حين أنه أصبح الأقل فاعلية وحضوراً على المسرح، قياساً على بقية الفاعلين الاجتماعيين كرجال الإعلام والأعمال، أو كمهندسي الحواسيب، ومصممي الأزياء، أو كلاعبي الكرة ونجوم الطرب، وأخيراً لا مهرب من إجراء فحص نقدي يطال شبكة المفاهيم التي يقرأ من خلالها المثقف الأحداث من حوله، وبالتالي عليه أن يعمل على تغيير صورته عن نفسه، بحيث يعيد ابتكاره لدوره، حتى لا يعيد العقم والهشاشة أو الهامشية.
واللافت في الأمر، أن حرب يرى في هذا النقد القاسي دفاع عن المثقف، عند من يعرف معنى النقد والكلام، لا عند من تسيطر عليه هواجسه النضالية، أو عند من يستغرق في تهويماته الأيديولوجية، وهو سعي في نظره لاستعادة المثقف سلطته بممارسته لفاعليته الفكرية، وذلك عبر إعادة صوغه لمفهومه عن السلطة، أو عبر إعادة ابتكاره لدوره.
وما يريد أن ينتهي إليه حرب في رؤيته لتصحيح صورة المثقف، هو القول بفشل وانتهاء المثقف المناضل أو التقدمي، والدعوة لولادة المثقف المفكر الذي ينهض بمهمة إنتاج الأفكار وبناء المفاهيم، وهي المهمة التي يستطيع المثقف النهوض بها دون غيرها حسب رؤية حرب، ولهذا فهو يعلي من دور المفكر الذي يعمل على جبهة الممتنع في نطاق الفكر، على دور المثقف الذي يعمل على جبهة الممنوع في نطاق الواقع.
ومن الواضح أن هذه الرؤية تتفارق كلياً وتتعارض مع الرؤية التي دافع عنها بشدة إدوارد سعيد في كتابه (صور المثقف)، بدفاعه عن الوجه الأخلاقي للمثقف الشجاع والمستقل، وهو المفكر والأديب والأكاديمي، ولم يكن رجل سياسة، أو زعيماً حزبياً، أو بوصفه منخرطاً في النضال اليومي، أو قائداً عمالياً أو نقابياً أو غير ذلك.
وإذا كنا نتفق مع حرب في حاجة المثقف إلى النقد الذاتي، وأن يكون موضوعاً للنقد، فإن من الصعب الاتفاق معه في كامل رؤيته، وأكثر ما يجعل رؤية حرب موضع نقد وشك هو حال المجتمعات العربية الراهنة!
دفاع عن المثقف أم مرافعة عليه؟
لعل كتاب الدكتور عبد الإله بلقزيز (نهاية الداعية.. الممكن والممتنع في أدوار المثقفين) الصادر سنة 2000م، هو الأكثر تشبهاً وتناغماً مع كتاب علي حرب (أوهام النخبة أو نقد المثقف).
وكنت أظن أنني لن أجد كتاباً في المجال العربي، يمكن أن يتناغم مع رؤية علي حرب الذي اعترف أنه فتح النار على المثقف، وبالغ وأسرف في نقده، وظل يلاحقه بأوصاف الفشل والعجز والإخفاق، وأعلن هزيمته ونهايته، ومبشراً بنمط المثقف المفكر الذي يشتغل بعالم الأفكار، وبهذا العالم يتحدد دوره في نظره.
ويصنف كتاب بلقزيز على نسق الكتابات التي حاولت نقد المثقف لتغيير رؤية المثقف إلى ذاته ودوره، ولتصحيح صورته. النقد الذي جاء مكثفاً في الكتاب، وممتداً من بدايته إلى نهايته، وبدون توقف أو سكون، وناظراً إلى علائق المثقف بالمعرفة والمجتمع والسلطة، وبدرجة ما هو أقل قسوة وعنفاً من كتاب علي حرب (نقد المثقف)، الكتاب الذي لا يكاد يفوقه ويتقدم عليه كتاب آخر في قسوته وعنفه.
وكان من اللافت حصول هذا المستوى من التناغم والاشتراك في الرؤية والأطروحة بين الكتابين، والذي يتحدد من حيث وجهته العامة في أمرين، الأمر الأول ويتصل بنقد ما أسماه علي حرب بأوهام النخبة، أو ما أسماه بلقزيز بنهاية الداعية. الأمر الثاني ويتصل بتحديد مجال ودور المثقف، على أن لا يتعدى حدود الفكر والمعرفة.
وبشأن الأمر الأول، يرى بلقزيز أن مع هذا التحول المثير في مكانة المثقف العربي الحديث ووظيفته، ما زال يتقمص دور الداعية، ويسند لنفسه أدواراً تتخطى قدرته الفعلية على الأداء والإنجاز، وما زال أسير صورته عن نفسه التي رسمتها له ظروف لم تعد موجودة، إنه الوهم في نظره يملك عليه الوعي، ويدفعه إلى تقمص هو شكل من أشكال التعويض النفسي، مكابرة لفظية ضد الاعتراف بالهزيمة، هزيمة صورة ودور.
وقد ظل بلقزيز ينبه لهذا الموقف، ويذكر به، ويرجع إليه، في دلالة على تمسكه بهذا الموقف، وحرصه على إلفات النظر إليه، وبه ختم كتابه حيث يقول في الأسطر الأخيرة: بات على مثقف اليوم أن يعيد تعريف دوره من النقطة التي يقف عليها، وأن يتخلى عن أحلامه الإمبراطورية في أن يكون نبياً جديداً يحمل رسالة للعالمين، وفي أن يكون قائداً تاريخياً يهدي الشعب والأمة إلى مستقبل مفروش بالورود، وفي أن يكون زعيماً سياسياً تنقاد لرأيه الجموع، وباختصار حسب قوله في أن يكون ما ليس ممكناً له أن يكون.
وبشأن الأمر الثاني، الذي يحدد دور المثقف بحدود الفكر والمعرفة، يرى بلقزيز في نهاية مقدمة كتابه آن للداعية أن يصمت، وأن ينسحب من المشهد بهدوء، كي يفسح فرصة للمثقف الباحث كي يزود ثقافته بمساهمة هي في عوز إليها، آن له أن يحترم دوره، وأن لا يتعدى حدود المعرفة، فلا يظلم نفسه.
وحين يريد بلقزيز أن يعرف المثقف فإنه يعرفه من جهة علاقته بالمعرفة، وحسب قوله إننا نعرف المثقف بوصفه منتجاً للمعرفة، ويعتقد أن وظيفة إنتاج المعرفة هي وظيفته الأصل، وما عداها هو في عداد ما يضيفه إلى حرفته.
وكما اعتبر علي حرب من قبل أن نقده القاسي للمثقف هو دفاع عنه، كذلك اعتبر بلقزيز أن كتابه ليس هجوماً على المثقف كما قد يظن، بل هو دفاع صادق عنه ضد الداعية أو بقايا الداعية فيه.
وهذا هو الغريب في الأمر، أن يجري التعامل مع المثقف بهذه الطريقة من النقد التي تطيح به، ولا تبقي له من باقية، وتعلن هزيمته، وتبشر نهايته، ومن ثم نشهر القول بأن هذا دفاع عن المثقف، وهل بقي منه شيء للدفاع عنه!
وهل يحتاج المثقف إلى كل هذا النقد الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، حتى ينتبه إلى ذاته، ويتعرف على نفسه، ويجدد صورته، ويعيد النظر في دوره ومهمته!
وهل سيفكر المثقف بدور بعد كل هذا النقد؟ أم أنه سيتأسف على نفسه لكونه في عداد هؤلاء الذين يحملون هذا الوصف، أو هذه التسمية، ويمكن أن يتبرأ من هذا الوصف، ويتخلى عنه، ويصم أذنيه عند التقول به والحديث عنه، ويمكن أن يلعن حتى الحروف الذي تتكون منه. مسكين هذا المثقف الذي نستضعفه، ونستقوي عليه ونمزقه شر تمزيق، ونقتله ألف مرة، ومن ثم نقول هذا دفاع عن المثقف، ولا أظن أن المثقف يريد أو يقبل هذا الدفاع!
اضف تعليق