صراع نفوذ ومشاريع كبرى استخدمت العامل الطائفي أداة وشعوب المنطقة وقوداً في هذا الصراع. لا يمكن- يا صديقي الصحفي السوري- اختزال المشهد ببعض تفاصيله وغض الطرف عن المشهد الأشمل، والصحافي المخضرم مثلك يجب أن ينظر إلى المشهد من كل زواياه، وليس من زاوية واحدة...
أخطر ما في الطائفية التي تستخدم منذ عقود، وربما قرون، في تنفيذ أجندات سياسية إقليمية، هي أنها تخترق عقول من يفترض أنهم مثقفون محصنون منها. ربما تكون معاناة هؤلاء تدفعهم إلى تأييد نهج طائفي وتبنيه لأسباب سياسية، حتى لو كانوا يعتنقون “اللا دينية” أو حتى الأيديولوجيا المعادية للدين أساساً. استوقفني منشور على منصة فيسبوك لصحافي سوري علماني وهو زميل عمل وصديق، يعلق فيه على صورة الجدار الحدودي، الذي بناه العراق على الحدود مع سوريا منذ سنوات. يقول البوست الذي كتبه باللهجة السورية المحببة إلى قلبي: «بيقول المثل: قتلني وبكى وسبقني واشتكى... يا ريت يكون (الجدار) أعلى من هيك ويا ريت تبعدوا عنا وتتركونا بحالنا”. أحد أصدقائه علّق بالقول: يا “ريت يكون بيننا جبل من نار”. لا استغرب من معلّق عادي جهله، لكنني استغرب أن يتعامل صحافي عانى من نظامه ما عانى وهاجر وعمل في إعلام غربي، ويفترض أنه رأى الحقائق من زوايا متعددة، أن يرى الصورة من زاوية واحدة وضيقة.
علقت على منشوره بالآتي: “عزيزي.. الإرهاب جاءنا بداية من سوريا بعيد العام ٢٠٠٣ عندما ساعد بشار الأسد المنظمات الإرهابية “المكوّعة” حاليا لتصبح سلطة مدنية، بعد أن مارست التفجير والذبح في العراق بحجة مقاومة الاحتلال».
لم أكن أرغب في ادامة النقاش مع صاحبي لما أراه في كلامه من أحادية الزاوية في التحليل لكنه أصر على الجواب، مشيراً إلى شكوى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى مجلس الأمن على خلفية الدعم السوري للإرهاب في العراق ثم تأييد المالكي لنظام بشار لاحقاً، مرجعا ذلك إلى “دوافع طائفية”، وهو استنتاج غريب. فالأسد عام ٢٠٠٤ هو ذاته في السنوات اللاحقة، فكيف يكون طائفيا من دعمه بعد اندلاع احداث سوريا عام 2011 وهو ذاته شكاه إلى مجلس الامن قبل ذلك. نعم، المالكي يعترف في حديث مسجل بأنه شكا الأسد إلى مجلس الامن، عندما كان يدعم الإرهاب في العراق، ولم يكن في اعتبار المالكي كون الرئيس السوري من طائفة قريبة لطائفته، وعندما دعمه لاحقا لم يفعل ذلك كون الأسد علويّاً بل السبب سياسي له علاقة بتمدد الإرهاب الذي سبق واستخدمه ضدنا، وانقلابه على داعمه، وتحول الأسد في خطاب المجموعات التكفيرية إلى “علوي كافر”، وهو ذات المنهج الذي غلّفوا به سلوكهم الإرهابي في العراق.
لا أتكلم هنا عن بدايات التحرك الشعبي السوري ضد نظام الأسد، والذي واجهه نظامه بتعميق وحشية قمعه، مما فتح الباب واسعا إلى احتراق ذلك التحرك من مخابرات عربية واجنبية بمجاميع إرهابية من جنسيات شتى، عربية وآسيوية وغربية. رفعت تلك المجموعات شعاراً طائفياً وبدأت بذبح السوريين بناء على الهوية المذهبية.
تمددت إلى العراق لاحقا واكملت مهمة طائفية كانت قد بدأتها تنظيمات “زميلة” سابقة، وتسجيلات هذه الجرائم موجودة وثابتة، حتى انتهى الامر بدخول عناصر داعش التي “تكاملت” مع تنظيمات محلية عراقية بذات النفس الطائفي. النهج الطائفي ذاك هو الذي حفز مجموعات عراقية وسورية وايرانية وافغانية لدخول الساحة السورية لمواجهة المد الإرهابي الطائفي، الذي جعل من بقاء نظام الأسد دافعا لهذه الأطراف للتدخل إلى جانب نظام الأسد، ليس حبّا به إنما لمنع وصول هذا المد الإرهابي الطائفي إلى الدول الأخرى ولحماية مواقع دينية كانت المجموعات الإرهابية تتوعد بتدميرها ونبش قبور من فيها.
اذن فإن ما قامت به هذه المجموعات غير السورية هو مواجهة مدٍّ طائفي وهي رد فعل وليس الفعل ذاته. يصعب أن نفهم اعتراض صحافي علماني على معنى وجود أفغان وايرانيين وعراقيين ضمن المشهد السوري سابقاً، فيما ضمّ ذلك المشهد المسلح الشيشاني والاوزبكي والتونسي والمغربي قبل الافغاني والإيراني. بل إن الوجود الأجنبي بقي في المشهد السوري في نسخته الجديدة بممارسات طائفية، وتبوأ بعضهم مناصب عسكرية في سوريا دون أن يسأل أحد ممن اعترضوا على الإيراني القادم بطلب من الأسد: لماذا كان هؤلاء في سوريا ولماذا بقوا حتى الان وبعناوين رسمية، رغم “التحول” المزعوم في منهج الحكام الجدد لسوريا. الدعم الرسمي الذي قدمته دول مثل إيران وروسيا وغيرهما كان لمواجهة محاولات تغيير معادلات سياسية في المنطقة، تراه إيران مضراً بمشروع المقاومة الذي تتبناه في المنطقة، فيما تراه روسيا مضراً بنفوذها وطموحاتها في المنطقة.
اذن هو صراع نفوذ ومشاريع كبرى استخدمت العامل الطائفي أداة وشعوب المنطقة وقوداً في هذا الصراع. لا يمكن- يا صديقي الصحفي السوري- اختزال المشهد ببعض تفاصيله وغض الطرف عن المشهد الأشمل، والصحافي المخضرم مثلك يجب أن ينظر إلى المشهد من كل زواياه، وليس من زاوية واحدة.
عموما، هذا الجدار بدأ تشييده منذ سنوات لمنع الإرهاب القادم من سوريا، وضروري بقائه حتى التأكد من حقيقة “التحوّل” المزعوم في فكر ومنهج الحكام الجدد في سوريا.
اضف تعليق