العراقُ الآن في هذه الأيّامِ الحاسمةِ والعصيبة، يوشِكُ على خسارةِ الكثير من الجهد والمال، وعلى التفريط بمصداقية التعداد العام للسكان الذي لا يمكنُ الاستغناء عن معطياتهِ ونتائجهِ عند اعداد أيّة استراتيجيّة أو خطّة تنمية وطنيّة جادّة وفاعِلة ومُنتِجة على المَدَيين المتوسط والبعيد...

العراقُ الآن.. في هذه الأيّامِ الحاسمةِ والعصيبة.. يوشِكُ على خسارةِ الكثير من الجهد والمال، وعلى التفريط بمصداقية التعداد العام للسكان الذي لا يمكنُ الاستغناء عن معطياتهِ ونتائجهِ عند اعداد أيّة استراتيجيّة أو خطّة تنمية وطنيّة جادّة وفاعِلة ومُنتِجة على المَدَيين المتوسط والبعيد، كما لا يُمكِن بناء وصياغة أيّة سياسة، ولا القيام بأيّة دراسة، أو حتّى كتابةِ بحثٍ رصين.

ويعودُ ذلكَ بدرجةٍ أساسيّة لسوء تعريف الجهات ذات العلاقة للمبادئ العامة لهذا التعداد، ولإشاعة وتعميم مخاوف عزّزها اعلامٌ رديء، ووسائل تواصل عملت بشراسة على نشر أخبار مُزيّفة لتضليل الناس، ولتصريحات بائسة ومُخجِلة صدرت عن وزراء في وزارات ذات صلة مباشرة بالشأن الاقتصادي والاجتماعي، بدا واضِحاً وجليّاً أنّهم لا يمتلكونَ الحدّ الأدنى من الإدراك لحدود وظائفهم ومدى مسؤوليتهم في نجاح أو فشل هذا التعداد.

لقد كانت مُحصّلة ذلك، وبشكلٍ رئيس، هي تحويل التعداد إلى مجرّد جَردٍ للموجودات الشخصية والعائلية الثابتة، و إثارة ذعر المستفيدين من برامج الرعاية الاجتماعية (خوفاً من انكشاف عدم شمولهم بمعايير منحها)، وتخويف دافعي الضرائب (الحاليّين والمُحتَمَلين)، بل وتجاوزت المخاوف حدود هذه الفئات لتصِل حتّى إلى الفاسدين، والمُتجاوزين على أملاك الدولة (فقراء وأثرياء)، وسكنة العشوائيّات.. كلّهم معاً.

تُضافُ إلى كُل ذلك حملات "التسييس" المحمومة لعدم شمول العراقيين في الخارج بهذا التعداد، والتركيز الشعبي على ما يُمكن أن ينطوي عليه اجراءٌ كهذا من تمييز مذهبي وعِرقي (وهو اجراءٌ مُلتَبِسٌ بالفعل، وغير واضِح القَصد، ومُثيرٍ للحسّاسيّات الاثنية في مُجتمَعٍ مُنقَسِمٍ أصلاً).

مع انتشار وترسيخ كلّ هذه المخاوف في مُجتمَعِ التعداد، تم تفريغ هذا التعداد من أهدافه الرئيسة، وتمّ نزع المصداقيّة عن وسائل إنجازه بكفاءةٍ مهنيّةٍ مُجرّدَةٍ عن أيّ قصدٍ "سياسي".. ومن الطبيعي في ظلِّ "مُقدّماتٍ" كهذه، أن لا يحصلَ العراق من هذا التعداد على النتائج المرجوّةِ منه (لا على صعيد الجهات والمؤسّسات المعنيّةِ بهِ فقط، بل وحتّى بالنسبة للمختصّين والباحثين والمُهتمّين بنتائجهِ، وفي جميع المجالات).

كان ينبغي التأكيد على أنّ هذا التعداد هو تعداد "تنموي"، لا يهدف إلى مُصادرة الملكِية الخاصة (أيّا ما كانت طبيعتها)، ولا إلى تجريد أحدٍ من امتيازاته (سِريّةً أكانت أم مُعلَنة).. وتجديد التأكيد على أنّ التعداد "التنموي" ليس أداة "عقابيّة"، ولا يمتلك سلطات تنفيذيّة (أو قانونيّة) يضعُ تحت تصرّفها بياناته للتنكيل بالآخرين، أو مُقاضاتهم أمام المحاكم المختصّة، وأنّهُ ليس تعداداً يهدف إلى ترسيخ سُلطة الطائفة والمذهب والعِرق والمنطقة.. بل هو "مُمارِسة" اجتماعية- اقتصاديّة- مؤسسيّة- يُمكِن من خلالها (وبأكبرٍ قدرٍ من الدِقّة) أن نعرِفَ (على سبيل المثال لا الحَصر) حجم وهيكل القوى العاملة، ومصادر توليد الدخل الشخصي والأسري، ومعدّل الإعالة، وحجم ومعدّل البطالة، ومستويات الفقر والحرمان والرفاهية، والتفاصيل المتعلّقة بالأنشطة الاقتصادية القطاع الخاص (في اطار الاقتصاد المُنظّم "الرسمي" وغير المُنظَم معاً)، وعن حجم الهجرة الداخليّة واتّجاهاتها، والتعرُّف عن فجوات "التنمية المكانية" بين الريف والحَضَر (وبين المحافظات)، والكشف عن "الهويّة الاقتصاديّة" للمُحافظات، وعن "الميزة النسبية" لكل "مُفردة" من مفردات الناتج المحلي الإجمالي، وعن معدّلات "تكوين رأس المال الثابت (العام والخاص)، وعن خصائص وطبيعة الإنفاق والاستثمار الخاص.. وأنّ كلّ ذلك سوف يتمّ على مستوى كل محافظة، وقضاء، ووحدة إدارية.. وغير ذلك كثير.

أتمنى أن لا يكون الوقت قد فات على فعل ذلك.. لأنّهُ (ومع بقاء مستويات إدراك الناس لأهداف التعداد العام للسكان على ماهي عليه الآن)، فإنّ هذا التعداد سيكون مجرّدُ مُمارسةٍ أوسعُ نطاقاً وأكثرُ "احتفاليّة" من "مسوحِ العيّنةِ" سيّئة الصيت، والتي كان العراق مُضطَرّاً للاعتماد عليها لعقود، وعانى طويلاً من معطياتها غير المنطقيّة، ومن خلاصاتها ونتائجها البائسة على أكثر من صعيد.

اضف تعليق