وأما الخائضون في غمرات البحث والنظر، والآخذون عقائدهم من عقولهم المزجاة، فليس لهم تثبت على عقائدهم، إذ العقول عن درك صفات الله وسائر العقائد الأصولية على ما هي عليه قاصرة، والأدلة التي يستخرجها مضطربة متعارضة وأبواب الشكوك والشبهات بالخوض والبحث تصير مفتوحة. فأذهانهم دائما محل تعارض...
قد أشير إلى أن أعظم المخاوف خوف سوء الخاتمة، وله أسباب مختلفة ترجع إلى ثلاثة: (الأول) وهو الأعظم، وهو أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله، إما الجحود أو الشك فتقبض الروح في تلك الحالة، وتصير عقدة الجحود أو الشك حجابا بينه وبين الله تعالى، وذلك يقتضي البعد الدائم، والحرمان اللازم، وخسران الأبد، والعذاب المخلد.
ثم هذا الجحود أو الشك إما يتعلق ببعض العقائد الأصولية، كالتوحيد وعلمه تعالى أو غير ذلك من صفاته الكمالية، أو بضروريات أمر الآخرة والنبوة. وكل واحد من ذلك كاف في الهلاك وزهوق النفس على الزندقة. أو يتعلق بجميعها إما أصالة أو سراية، والمراد بالسراية أن الرجل ربما اعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف ما هو الحق والواقع، إما برأيه ومعقوبه، أو بالتقليد، فإذا قرب الموت وظهرت سكراته واضطرب القلب بما فيه، ربما انكشف بطلان ما اعتقده جهلا، إذ حال الموت حال كشف الغطاء، ويكون ذلك سببا لبطلان بقية اعتقاداته أو الشك فيها، وإن كانت صحيحة مطابقة للواقع، إذ لم يكن عنده أولا فرق بين هذا الاعتقاد الفاسد الذي انكشف فساده وبين سائر عقائده الصحيحة، فإذا علم خطأه في البعض لم يبق له اليقين والاطمئنان في البواقي.
كما نقل أن (الفخر الرازي) بكى يوما، فسألوه عن سبب بكائه، قال: اعتقدت في مسألة منذ سبعين سنة على نحو انكشف اليوم لي بطلانه، فما أدراني أن لا تكون سائر عقائدي كذلك.
وبالجملة: إن اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل أن ينيب ويعود إلى أصل الإيمان، فقد ختم له بالسوء وخرجت روحه على الشرك، أعاذنا الله منه، وثبتنا على الاعتقاد الحق لديه، وهم المقصودون من قوله: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) الزمر 47. ومن قوله: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف 103-104.
والبله: أعني الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إيمانا مجملا راسخا، بمعزل عن هذا الخطر، ولذلك ورد: إن أكثر أهل الجنة البله. وورد المنع من البحث والنظر والخوض في الكلام، والأخذ بظواهر الشرع مع اعتقاد كونه تعالى منزها عن النقص متصفا بما هو الغاية والنهاية من صفات الكمال. والسر في ذلك: أن البله إذا أخذوا بما ورد من الشرع واعتقدوا به، يثبتون عليه لقصور أذهانهم عن درك الشبهات وعدم اعتيادهم بالتشكيك، فلا يختلج ببالهم شك وشبهة ولو عند الموت.
وأما الخائضون في غمرات البحث والنظر، والآخذون عقائدهم من عقولهم المزجاة، فليس لهم تثبت على عقائدهم، إذ العقول عن درك صفات الله وسائر العقائد الأصولية على ما هي عليه قاصرة، والأدلة التي يستخرجها مضطربة متعارضة وأبواب الشكوك والشبهات بالخوض والبحث تصير مفتوحة. فأذهانهم دائما محل تعارض العقائد والشكوك، فربما ثبتت لهم عقيدة بملاحظة بعض دلائله، فيحصل لهم فيها طمأنينة، ثم يعرض لهم شك يرفعها أو يضعفها، فهم دائما في غمرات الحيرة والاضطراب. فإذا كان حالهم هذا فأخذتهم سكرات الموت، فأي استبعاد في أن يختلج لهم حينئذ شك في بعض عقائدهم.
ومثله مثل من انكسرت سفينته وهو في ملتطم الأمواج يرميه موج إلى موج، والغالب في مثله الهلاك، وإن اتفق نادرا أن يرميه موج إلى الساحل. وقد نقل عن (نصير الدين الحلي) -وهو من أعاظم المتكلمين- أنه قال: إني تفكرت في العلوم العقلية سبعين سنة، وصنفت فيها من الكتب ما لا يحصى، ولم يظهر لي منها شيء سوى أن لهذا المصنوع صانعا، ومع ذلك عجائز القوم في ذلك أشد يقينا مني.
فالصواب تلقى أصل الإيمان والعقائد من صاحب الوحي، مع تطهير الباطن عن خبائث الأخلاق، والاشتغال بالطاعات وصوالح الأعمال، وعدم التعرض لما هو خارج عن طاقتهم من التفكر في حقائق المعارف، إلا من أيده الله بالقوة القدسية والقريحة المستقيمة، وأشرق نور الحكمة في قلبه. وشمله خفي الألطاف من ربه، فله الخوض في غمرات العلوم. وأما غيره فينبغي أن يأخذ منه أصول عقائده الواردة من الشرع، ويشتغل بخدمته حتى تشمله بركات أنفاسه، فإن العاجز عن المجاهدة في صفه القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم، ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وإن كان فاقدا لدرجتهم.
(الثاني) ضعف الإيمان في الأصل، ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله وقوي حب الدنيا في القلب، واستولى عليه بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله إلا من حيث حديث النفس، فلا يظهر له أثر في مخالفة النفس والشيطان، فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات، حتى يظلم القلب ويسود، وتتراكم ظلمة الذنوب عليه، ولا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان حتى ينطفئ بالكلية، فإذا جاءت سكرة الموت ازداد حب الله ضعفا، وربما عدم بالمرة، لما يستشعر من فراق محبوبه الغالب على قلبه، وهو الدنيا، فيتألم ويرى ذلك من الله، فيختلج ضميره بإنكار ما قدره الله من الموت، وربما يحدث في باطنه بغض الله بدل الحب، لما يرى أن موته من الله، كما إن من يحب ولده حبا ضعيفا، إذا أخذ ما لا له هو أحب إليه منه وأتلفه، انقلب حبه بعضا.
فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطر فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء. نعود بالله من ذلك. وقد ظهر أن السبب المفضي إلى ذلك غلبة حب الدنيا مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله، فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا فهو أبعد من هذا الخطر، وإن أحب الدنيا أيضا، ومن وجد في قلبه عكس ذلك فهو قريب من هذا الخطر. والسبب في قلة حب الله قلة المعرفة به، إذ لا يحب الله إلا من عرفه، وإلى هذا القسم من سوء الخاتمة أشير في الكتاب الإلهي بقوله: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) التوبة 24. فمن فارقته روحه في حالة كراهة فعل الله وبغضه له في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه، فيكون موته قدوما على ما أبغضه وفراقا لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهرا، ولا يخفى ما يستحق مثله من الخزي والنكال وأما الذي يموت على حب الله والرضا بفعله كان قدومه قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه، ولا يخفي ما يلقاه من الفرح والسرور.
اضف تعليق