عندما نحتفي بمناسباتنا الوطنية، سواء التراجيدية منها أو المفرحة، علينا توخي الحذر والموضوعية، فالأمر يكمن في استجلاء ماهية هذه المناسبات، ومدى الاستفادة منها في تقصي الحقائق، وتجنب أخطاء الماضي، فالتعلم من الماضي لإنقاذ المستقبل، ينبغي أن يمثل الأولوية لدى الجميع، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة...
من المشاهد المؤذية التي تركها النظام المباد على الواقع الاجتماعي والتربوي والنفسي للأسرة العراقية، والتي لم يحسم أمرها إلى اليوم، هي تلك الصورة المأساوية والمتمثلة بالإبادة الجماعية (جينوسيد Genocide ). والتي تجسدت في أبشع صورها في المقابر الجماعية، التي توشحت بها خارطة العراق من الشمال إلى الجنوب.
هذه الإبادة التي لم يتعرض لها أي شعب من شعوب الأرض، على الرغم مما خلف لنا التاريخ البشري من مآسٍ وويلات. لقد عاش العراقيون خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم في عزلة تامة، انفرد بهم خلالها وحش الدكتاتورية، مخلفا دماراً شاملاً في البنية الاجتماعية والنفسية، يمكن استقراء بعض ملامحها من حياة الناس.
فقد تسببت سياسات النظام المباد، وساديته العنيفة بخلق مواضع عقدية عديدة، لم يكد ينجو منها كثيرون. ومن المعروف للجميع أن الأساليب الجرمية للنظام المباد قد تعددت من حيث الشكل والمضمون، ومنها إصداره للعديد من القوانين والتعليمات، التي أعقبت إنتفاضة آذار من عام 1991 والذي منح بموجبها سلطات واسعة لأعوانه في الحزب وقيادة مجلسه، لإبادة من يتمكنون من إبادته، سواء شارك في الانتفاضة أم لم يشارك، وتفانى أولئك في تنفيذ أوامره، فملؤوا تربة العراق بالمئات من المقابر الجماعية التي اكتشف منها غيض من فيض، مما يعني أننا نتوقع اكتشاف المزيد من هذه المقابر.
وقد ترتب على هذا الأمر جملة من المشكلات القانونية والاجتماعية والاسرية، إضافةً إلى الضغوطات الاقتصادية والنفسية الوخيمة، التي عانت منها معظم الاسر العراقية، حتى باتت مفردة المقابر الجماعية من أكثر المفردات، التي تتردد في وسائل الإعلام المختلفة وعلى الألسن بعد الإطاحة براعي هذه المقابر.
وعلى الرغم من أنها جاءت متأخرة بعض الشيء، إلا أنها كانت التفافة مهمة من قبل رئاسة مجلس الوزراء عندما قامت بتخصيص يوم وطني، وهو السادس عشر من أيار من كل عام لأصحاب المقابر الجماعية، ولا نعتقد أن هول ما تعرض له أهل العراق أبان حقبة النظام المباد ينحصر في أربع وعشرين ساعة من أيام السنة، فقد كانت أيام العراق ولياليه وأرضه وسماؤه تتمحور بين القبور المفتوحة، والغيوم الداكنة، والدماء المسفوحة، والأسوار الحديدية.
ولعل أغرب ما يروى عن المقابر الجماعية، التي يمكن تدوينها في سجلات النظام المباد كماركة مسجلة وامتياز حصري ما كان يعرف بمقبرة (الدوبة) في صحراء الفيلق الرابع من مدينة العمارة. والدوبة وما أدراك ما الدوبة، هي عبارة عن كتلة حديدية نقلت من جهنم وبالذات من وادي (سقر) لتوضع في تلك الصحراء، والذي يتجاوز ارتفاع درجة حرارة الرمضاء فيها الــ 60% في قيظ الجنوب اللاهب، فكيف والحال عندما توضع كتلة حديدية وسط هذه الصحراء، وهي مقفلة الأبواب وخالية النوافذ، أعدت سابقاً لنقل النفط ومشتقاته، ومضى على صنعها ما يقرب القرن وقد تآكلها الصدى حتى وصلت ارتفاع الحرارة فيها إلى درجة الغليان.
وكان يؤتى بالأجساد الغضة من الصبية والشيوخ من ثوار الانتفاضة الشعبانية، لتلقى في قعرها السحيق، وبطبيعة الحال فأنه لم يبق من تلك الاجساد الهزيلة بعد سويعات من وضعها في سقر سوى أكوام من العظام والجماجم، بعد أن تذوب لحومها وتتبخر دماؤها.
تلك حادثة من حوادث الأيام الخوالي، التي لم يجف دماء ضحاياها من على صفائح حديد الدوبة وثرى القبور، والتي يراد لها اليوم التناسي والنسيان.
إن تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والنفسي، سيظل يعود إلى هذه النقطة المفصلية، عندما يحاول دراسة العنف العراقي المعاصر، والموسوم بعلامة المقابر الجماعية المكتشفة، وهذا الكم الهائل من الوقائع المروعة، التي لا يمكن بحالٍ من الأحوال إجمالها في هذه العجالة.
والحقيقة نحن هنا لسنا بصدد اجترار آلام الماضي، والوقوف على الأطلال، واسترجاع المواجع، إنما الوقوف على الحقائق كما هي، لأن هناك من ينكر، أو على الأقل يشكك بوقوع تلك المأساة.
إن ما يلفت النظر، هو ما يتم الترويج له وعلى عدة أصعدة، والمتمثل بإلغاء الذاكرة العراقية، والتغاضي عن حقب وحوادث تاريخية بعينها، لأنها لا تنسجم مع توجهات محددة، وهذا الأمر يتعارض بطبيعة الحال مع الطرح الوطني الموضوعي، الذي يدعو لإعادة قراءة وكتابة التاريخ للاستفادة منه حاضراً ومستقبلاً، وهذا ينطبق على قضية المقابر الجماعية.
فالملاحظ أن ثرى ودماء تلك المقابر لم يجف بعد، وأن الكثير من هويات ضحايا من وسَد تلك المقابر ما زال مجهولاً، ومع كل هذا المشهد التراجيدي هناك من يسعى إلى دفن تلك الحقائق الموضوعية إلى جنب تلك المقابر الجماعية .
ان التأكيد على تنشيط الذاكرة لا يعني نبش الماضي بكل مواجعه وبطريقة بكائية لتحقيق أغراض آنية ومرحلية كما يفعل البعض، إنما هو طرح وطني ينأى بنفسه عن جميع الولاءات والميول والأهواء العرقية والدينية والمذهبية.
ولهذا فعندما نحتفي بمناسباتنا الوطنية، سواء التراجيدية منها أو المفرحة، علينا توخي الحذر والموضوعية، فالأمر يكمن في استجلاء ماهية هذه المناسبات، ومدى الاستفادة منها في تقصي الحقائق، وتجنب أخطاء الماضي، فالتعلم من الماضي لإنقاذ المستقبل، ينبغي أن يمثل الأولوية لدى الجميع، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة.
اضف تعليق