المنصات الالكترونية تمثل الوسيلة الأكثر انفلاتاً من بين وسائل الاشهار والعلانية، التي نص عليها قانون العقوبات، كثير منها بات أداة تدمير وتخريب للمجتمع، ولا بد من عملية تنظيم ومتابعة لوضع حد لكل التعديات التي لم تعد مقتصرة على المحتوى الهابط، بل تعدّته إلى تخريب متعمد لما تبقى من منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية للمجتمع...
تحركت مخاوف الصحافيين وأهل الرأي من التوجيه، الذي أصدره رئيس البرلمان بالنيابة محسن المندلاوي إلى الدائرة القانونية في البرلمان، بإقامة الدعوى القضائية ضد من يسيء إلى البرلمان أو أعضائه. ردود الأفعال تخوفت من أن يكون ذلك خطوة نحو تكميم الأفواه، وقمع كل رأي لا يعجب المسؤول. هذه المخاوف برزت سابقا عند كل حديث عن إجراءات أو مشاريع قوانين لتقنين الحريات. الخوف دائما من أن يكون ذلك مصادرة تدريجية لحرية الرأي والتعبير، باعتبارها من أهم مكاسب نظام ما بعد 2003.
توجيه المندلاوي ليس قانوناً، إنما هو توجيه بالعمل وفق القانون، ومن خلال القضاء ضد من يسيء إلى البرلمان. هنا نحتاج إلى توضيح معنى الإساءة ومن يحدد مصاديقها.
أكدت المادة 38 من دستور 2005 على كفالة الدولة لحرية الرأي والتعبير، من خلال الوسائل المختلفة شريطة ألا يخل ذلك بالنظام العام والآداب العامة. هذه الشروط تخضع دائما للنقاش حول مصاديقها ومن الذي يحددها، رغم أن القانونيين يجمعون على أنها مجموعة القواعد القانونية الملزمة للجميع، فيما تمثل الآداب العامة مجموعة القواعد والأحكام المتعلقة بالأخلاق والحشمة والمحاسن والمساوئ وهي تتوزع بين ثابت ومتغير مع الزمن.
ما حدث بعد 2003 هو أن القيود الصارمة على حرية الرأي والتعبير التي كانت مخيمة على الوضع العام زالت فجأة، وبات العرقيون أمام حريات لم يجربوها ولا يعرفون ضوابطها وحدودها. تطبيقات هذه الحريات شابها الكثير من التشوّه حتى باتت أقرب إلى الفوضى والانفلات.
غاب التوجيه والتنظيم بالقدر الكافي، لتأتي وسائل التواصل الخارجة عن أي تنظيم وتتيح المجال لمن يريد وماذا يريد أن ينشر دون رقيب، اللهم إلّا ما جرى مؤخراً من ملاحقة أصحاب المحتوى الهابط وبشكل جزئي.
من الضروري التحرك لتنظيم هذه الحريات ورسم حدوها، فلا حرية مطلقة في أي بلد ديمقراطي، وحدودها الأضرار بحريات الآخرين وخصوصياتهم وكراماتهم، فضلا عن النظام العام الذي ترسمه القوانين.
هذا التوسع في فهم الحرية وتطبيقاتها التي دخلت منطقة المحظور يدعو إلى الإسراع في تنظيم الحريات عبر قوانين واضحة، خالية من المفردات العائمة القابلة للتأويل بما يجعلها سلاحا بيد صاحب السلطة التي لا يحب عادة، حتى في اكبر الديمقراطيات أن يراقبه الإعلام ويسلط الضوء على أدائه وما فيه من تقصير. لا بد من الإشارة إلى أن الشخصية العراقية بشكل عام ما زالت تعيش رواسب الماضي من حيث رفض الرأي الاخر وتخوين صاحبه.
هذه الرواسب موجودة لدى غالبية الناس، لكن صاحب السلطة هو الاقدر على استثمارها بسبب امتلاكه أدوات تفعيلها.
من هنا فان الحاجة تبدو ملحّة لحملة واسعة لتعديل قوانين موجودة وسنّ أخرى مكملة لعملية تنظيم الحريات وتمكين المواطن من التمتع بها، بعيدا عن تعسّف المسؤول. القضاء سيكون هو الفيصل الذي يعمل بقوانين واضحة بعيدة عن التأويل.
لا مناص من تنظيم الحريات، ومع التنظيم نشر ثقافة الحرية وحدودها. في العراق اليوم إعلام لا نظير لحجمه في بلد عربي آخر، ولا يمكن لهذا الإعلام أن يعمل دون أجواء من الحرية المحمية بالقانون، كي يؤدي دوره كسلطة رابعة حقيقية تراقب المسؤول، وتكشف الفساد بوثائق وأدلة واضحة تكون عوناً للقضاء في ملاحقته للفاسدين، لا أن يجري التلويح بفتح ملفات من أجل ابتزاز المسؤول الفاسد كما يفعل الكثيرون، أو أن يقوم الإعلام بانتهاك الخصوصيات والكرامات الشخصية، بما يخرج الأداء الإعلامي من منطقة الحرية إلى الاضرار بالاخرين.
المنصات الالكترونية تمثل الوسيلة الأكثر انفلاتاً من بين وسائل الاشهار والعلانية، التي نص عليها قانون العقوبات. كثير منها بات أداة تدمير وتخريب للمجتمع، ولا بد من عملية تنظيم ومتابعة لوضع حد لكل التعديات التي لم تعد مقتصرة على المحتوى الهابط، بل تعدّته إلى تخريب متعمد لما تبقى من منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية للمجتمع.
اضف تعليق